تُثبت "الممانعةُ" حكوماتٍ وأحزاباً أنها تكرّس يوماً بعد
يوم منظومةً أخلاقية لا تحتكر
الوضاعة، إذ ثمّة بين خصومها من قد يجاريها فيها، لكنها تُحوّلها الى سمةٍ لقسمٍ كبير من جمهورها ومُريديها. وليس أشدّ دلالةً على الأمر
سوى تعاطي معظم المُمانعين منذ سنواتٍ مع جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي
يرتكبها نظام الأسد، والتي صار لحزب الله بعد تجويع مضايا نصيبٌ من المسؤولية
المباشرة عنها.
فبعد
نفي الحزب مُحاصرتَه البلدة السورية واتّهامِه "المروّجين" للموضوع
بالسعي "لتشويه صورة المقاومة"، وبعد تحويل نفيِه الى اتّهامٍ للمسلّحين
المُحاصَرين بالتسبّب بِالحصار، راح إعلامُه يبحث عن صُوَر مزوّرة أو منسوبة زوراً
الى مضايا ليُبرزَها، علّه يخفّف بواسطتها هَولَ الجريمة أو يُرخي ظلال شكٍّ على حدوثها.
ولم يكن من الصعب الوقوع على هكذا صُوَر منشورةٍ في مواقع التواصل الاجتماعي. فهي
كثيرةٌ، ويظنّ مركّبوها - إن لم يكونوا مخابراتيّين - أنهم في استخدامها (البائس) و"تدويرها"
كلَّ فترةٍ قد يستدرّون عطفاً إضافياً تجاه الجِياع الحقيقيّين.
على أن جزءاً واسعاً من الجمهور المُمانع لم يكترث بِكلّ هذا. فلا النفي يهمُّه، ولا مقولة "تشويه صورة المقاومة" يأخذها
على محمل الجدّ، ولا حتّى الصور المزوّرة تستثيره ليُكذّبَ خصومَه. فهو يعرف
جيّداً أنها جميعُها مجرّد ردودٍ إعلاميةٍ لِمُعسكرهِ لا أكثر، ويعلم أن التجويع واقعٌ
ويشمتُ بضحاياه، ويردّ على حملات التضامن معهم بحملات دعمٍ لحصارِهم مُرفقةٍ
بصُوَرِ أطعمةٍ وبرّاداتٍ مليئةٍ بالمآكل، للهزء بوجعهم وبموت أطفالهم البطيء.
وتُذكّرنا خِسّتُه السافرة والصريحة هذه،
بمقولاتٍ ردّدها مُمانعون آخرون مجّدوا ألوف البراميل المتفجّرة التي يقذفها طيران
الأسد على المدنيّين السوريّين، في الوقت الذي كان الأسد نفسه ينفي امتلاك طيرانه
لها. وتذكّرُنا كذلك بمسيرات طلّاب "البعث" السيارةِ في دمشق احتفالاً
بالقصف الكيميائي للغوطتين الشرقية والغربية صيف العام 2013، رغم أنه قصفٌ نفاه
أركان نظامهم يومها وقالت الناطقة باسمه إن الأطفال المخنوقين بسببه هم أطفالٌ
اختطفهم "الإرهابيّون" من قرى الساحل السوري واقتادوهم الى الغوطتين حيث
قتلوهم وعرضوا جثامينهم لاتّهام النظام بخنقهم وتشويه سمعته.
هكذا، تحوّل احتفاء معظم المُمانعين
بالجرائم الى طقسٍ دائم، الى منظومةٍ أخلاقية تُوالي القتل بوصفه رداً سياسياً على
الخصم، لا همّ إن حاولَ فاعلُه التنصّلَ منه لاحقاً أو حاول حتى نفيَ وقوعه. فكذبُ
القاتل قبل القتلِ وبعده ليس سوى "ديكور" ضروريّ لمهمّته أو مسرحةٍ
خطابيّة ترافق فعلتَه. والأخيرة، مهما سفكت من دماء، لا تروي غليلَ هؤلاء الممانِعين
كفايةً، إذ يُريدون إبادة شاملةً لِخصومِهم. أو بالأحرى يُريدون، تماماً كما قالوا
بصدقٍ وفجور منذ اليوم الأول، تطبيقَ شعار "الأسد أو نحرق البلد"
معطوفاً على "الجوع أو الركوع". فهذه هي بالتحديد أخلاقهم وأخلاق من
يناصرهم. أما الباقي كلّه، من جيوستراتيجيا ومقاومة وإمبريالية ومؤامرات وأقلّيات
وتكفيريّين، فلا تغدو كونها تفاصيل، أو عدّة شغلٍ إعلامية...
زياد ماجد