يمكن
اعتبار العام 2015 من أسوأ الأعوام بالنسبة للصحافيين والمواطنين-الصحافيّين
السوريّين، لجهة القتل والاعتقال والتهجير والتهديد. وقد شهدت الأشهر الأخيرة مقتل
وإصابة الكثيرين منهم بقصف النظام الأسدي والطيران الروسي وبسكاكين ورصاص داعش.
و"الأسوأ"،
أن عدداً من الصحافيين هؤلاء تعرّضوا للاغتيال خارج سوريا، وتحديداً في جنوب تركيا،
حيث ظنّوا أنفسهم آمنين. فبعد تصفية إبراهيم عبد القادر وفارس حمادي من حملة
"الرقة تُذبح بصمت" في مدينة أورفا في آخر تشرين الأول الفائت في عمليّة
أعلنت داعش مسؤوليتها عنها، فُجع سوريو مدينة غازي عنتاب وأصدقاؤهم قبل يومين
باغتيال ناجي الجرف بطلقاتٍ من مسدّسٍ كاتم للصوت في وسط المدينة.
واغتيال
الجرف هوَ الأخطر "أمنياً" لوقوعه في وضح النهار وفي قلب عنتاب. كما أنه
الأشدّ وقعاً إعلامياً والأكثر مؤدّياتٍ سياسياً نظراً لنشاط المُستهدَف وعلاقاته
الواسعة وما مثّلة في الثورة السورية وأنشطتها من قِيَم ومفاهيم. ولعلّ في ذلك ما
يُفسّر الحسرة السورية الاستثنائية عليه وردود الأفعال الواسعة على اغتياله في
الأوساط المعارضة للأسد ولداعش داخل سوريا وخارجها.
فناجي
الجرف، إبن مدينة سلمية، انتمى الى الحقبة الثورية السورية الأولى في العامين 2011
و2012 وشارك في المظاهرات ووثّق بعضها وغطّاها إعلامياً الى حين اضطراره للخروج من
سوريا كما الألوف من أمثاله. لكنّه بقي قريباً من حدودها، واستمرّت علاقته الوثيقة
برفاقه داخلها، ونشط في مكان عيشه الجديد ضمن هيئات "المجتمع المدني"
السوري الناشئة، وترأّس تحرير مجلة "حنطة" التي صارت واحدة من أبرز
دوريات الصحافة السورية البديلة.
وناجي
الجرف عمل أيضاً على إنتاج تحقيقات صحفية لوسائل الإعلام المحترفة. ولعلّ الوثائقي
حول سيطرة داعش على حلب خلال الأشهر الأخيرة من العام 2013 (قبل أن يطردها الجيش
الحرّ وبعض الفصائل الإسلامية السورية)، الذي أظهر الممارسات الإجرامية للتنظيم
بحقّ الثوار والمعارضين الأوائل لنظام الأسد، كان من أبرز هذه التحقيقات وأكثرها
فضحاً لأدوار "داعش" وأولويّاتها.
وناجي
كان فوق ذلك ديمقراطياً وعلمانياً، واضحاً في خياراته السياسية وانحيازاته الإنسانية،
من دون قطيعة مع من لا يتماهون معه بالضرورة. ولا شكّ أن عداءه لنظام الأسد ولتنظيم
داعش، وقناعته التي عبّر عنها تكراراً بأن بربرية الأول هي أبرز أسباب صعود همجية الثاني،
جعلاه هدفاً مثالياً للطرفين. إذ كلٌّ منهما يتمنّى تنسيب خصومه جميعاً للآخر،
وهذا ما لم يكن ممكناً مع ناجي، ومع من يُشبههم ويمثّلهم ناجي، ولذلك كانوا وما
زالوا الأكثر استهدافاً والأكثر يُتماً في الثورة السورية اليتيمة.
غدر
القتلةُ بناجي الجرف قبل انتقاله الى محطّة جديدة في عمله وحياته وحياة أسرته
الصغيرة. وغدروا بنهاية عامٍ كان يُمكن لولا كاتم الصوت والوضاعة التي ضغطت على
زناده أن يكون أقلّ حزناً وأقلّ خسارة وأقلّ ظلما.
لروح
ناجي الرحمة والسلام، ولزوجته وطِفلتَيه وعائلته وأصدقائه ورفاقه في الكفاح السوري
المرير الصبر وطول العمر...
زياد ماجد