تعبّر
"المبادرة الرئاسية" التي شاع الحديث عنها في الأسابيع الماضية عن مجموعة
مسائل ترتبط بالحياة السياسية اللبنانية وأركانها.
المسألة
الأولى أنها شكلاً وأشخاصاً أمينةٌ في تمثيلها لمستوى معظم السياسيين اللبنانيين
وعلاقاتهم الداخلية وارتباطاتهم الخارجية ومنظوماتهم القيمية.
المسألة
الثانية أنها تكريس لتحوّل الرئاسة الأولى في لبنان منذ عقود الى رئاسة
"الغموض"، إذ غالباً ما لا يرافق انتخاباتها نقاشٌ علنيٌّ حول برنامج
المرشّح وآرائه السياسية وتصوّراته لسبل إدارة المرحلة التي يودّ ترؤّسها. وحتى
حين تكون أسماء المرشّحين معروفةً ومواقفهم العامة كذلك، يتحوّل البحث حول حظوظهم
الى بحث في "الغموض". وكلّما ازداد هذا "الغموض" الذي يُتيح
أحياناً إعادة تعريفهم والسعي لتسويقهم بمعزل عن مواقفهم السابقة وربّما نقضاً
لها، كلّما بدت حظوظهم أفضل واحتمالات انتخابهم أكبر.
المسألة
الثالثة أن المبادرة في مأزقها تُكرّر سيرة انتخابات رئاسية لم تعرف مرّة مساراً
"طبيعياً" منذ العام 1976. فانتخابات العام 1982 تمّت في ظلّ الاجتياح
الإسرائيلي، وأعقبها اغتيال الرئيس المُنتخب، فعُوّض الأمر بأخيه. وانتخابات العام
1988 لم تجرِ بل انقسمت السلطة التنفيذية نتيجة انعدامها. وحين جرت الانتخابات في
العام 1989 اغتيل الرئيس المُنتخب ليأتي بعده رئيس بشروط (إقليمية) مختلِفة. وفي
العام 1995 عُدّل الدستور للسماح بتمديد ولاية الرئيس، ثمّ جرى تعديل الدستور من
جديد العام 1998 للإتيان بقائد الجيش رئيساً. وفي العام 2004، أُعيد تعديل الدستور
لتمديد ولاية الرئيس إياه. وفي العام 2007 تعذّر انتخاب رئيس الى أن أتاح تعديلٌ رابع
للدستور انتخابَ قائد ثانٍ للجيش رئيساً. ومنذ إنهاء الأخير ولايته قبل عامٍ ونصف،
شغر المنصب وما زال.
هكذا
تعاقبت على لبنان استحقاقات رئاسية لم تكن مرّة وفق ترشيحات وبرامج مُعلنة،
وتحوّلت عملية تعديل الدستور على مقاس شخص الى روتين يرافقها منذ العام 1995، بما
أقرنها في السنوات العشرين الأخيرة بعملية مسٍّ تلقائي بالنص الذي يُفترض أنه
الأكثر هيبة وحصانةً واحتراماً بين جميع النصوص الوضعية.
المسألة
الرابعة أن هذه المبادرة تأكيدٌ على أفول تراثٍ سياسي سُمّي ذات يوم بالمارونية
السياسية. وهو أفولٌ لا تكفي الحرب وإدارة النظام السوري للبنان من بعدها وتبدّلات
الديمواغرافيا والاقتصاد، على أهمّيتها، لتفسيره. بل يفيد أيضاً البحث في تحوّلات
النخب السياسية المارونية نفسها وعلاقاتها وتوازناتها وتحالفاتها للإحاطة بالكثير
من جوانبه. وهذا لا يعني - على ما يتردّد بسذاجة - أن "انقسام
المسيحيين" هو سببه. فالمسيحيون، كجميع الطوائف، كانوا على الدوام منقسمين
سياسياً واجتماعياً وثقافياً. وكان كلّ رئيس يأتي له خصومه من سياسيّي طائفته. الفارق
اليوم أن الموارنة في لحظة انقسامهم الى معسكرين سياسيّين رئيسيّين أنّما يتجاورون
مع طائفتين شيعية وسنية شديدتي المركزية في زعامتيهما (وشديدتي التنابذ أيضاً)،
بما يجعل انجذاب كلٍّ من معسكريهما الى إحدى الزعامتين المُسلمتَين سبيل تعطيل
لمعظم أدوارهم السياسية. وحتّى حين يقرّر المعسكران المارونيّان التمرّد، فوزنهما
مجتمعَين لا يكفي في اللحظة الرئاسية لتعديل الكفّة في ظلّ شروط النصاب الانتخابي وتوازناته.
وهذا في أي حال واحد من علامات التصدّع الذي تعيشه "الديمقراطية
التوافقية" منذ سنوات.
إذا
أضفنا الى كل ذلك سائر الشجون التي يعاني منها البلد، بان لنا اليوم أن ما جرى
ويجري هو محاولات "ترقيع"، يُعطي العجز عن التعامل مع أزمتَي النفايات
والكهرباء مؤشّراً على مستوى "المرقّعين" فيها. لكن لا بأس إن حاولوا
وإن أجّلوا اكتشاف أن النظام برمّته مأزوم وأن مشروعيّاتهم الشعبية (كلّ في طائفته)
لم تعد تكفي للتعامل مع أزماته – أزماتهم.
زياد ماجد