ما
الذي أحدثته صورة الطفل السوري إيلان، الذي أعادته الأمواج مع أخيه ووالدته الى
شاطئ تركي بعد غرقهم وهم يحاولون الوصول الى البرّ الأوروبي في اليونان، في أوساط
الرأي العام في أكثر من دولة أوروبية؟ وما المُختلف في صورته، أو ما الجديد الذي
"يميّزها" عن آلاف الصور المأساوية الوافدة من غوطتَي دمشق أو من مخيّم
اليرموك أو من درعا أو من حلب وحمص وإدلب والرقة ودير الزور، حيث قُتِل آلاف
الأطفال تحت براميل الأسد المتفجّرة وظهرت صُوَرهم الشديدة القسوة في وسائل
الإعلام تارةً وفي مواقع التواصل الاجتماعي تارة أُخرى؟
تزعم
الأسطر التالية أن ثلاثة عوامل أساسية تفسّر "خصوصية" صورة إيلان،
وتفسّر بالتالي الصدمة التي أحدثتها في الكثير من الأوساط الإعلامية والسياسية
والمجتمعية الغربية في الأيام الأخيرة.
العامل
الأول، هو المرتبط بشكل الموت الذي خطف الطفل. فغياب الدم والأشلاء وآثار القصف
والقتل، سهّل النظر الى الصورة وسهّل فصلها عن مُسبّباتها التي تُعيق في الكثير من
الأحيان التحديق في صور الضحايا. ذلك أن فظاعة مشاهد الموت "الدموي" وتقطيع
الأوصال تدفع في أغلب الأحيان الى إشاحة الأنظار، كما أن غياب القتل المباشر
و"ذرائعه" السياسية (التي يقول أكثر المواطنين الغربيّين ومعهم كثرة من السياسيين
إنها "معقّدة") تُتيح للانفعال الإنساني التعبير عن نفسه بلا قيود،
تماماً كما يجري عند وقوع "الكوارث الطبيعية".
العامل
الثاني، هو المتأتّي من الشعور بالذنب. فالطفل الصريع وذووه غرقوا وهم يحاولون
الوصول الى أوروبا لأن الأخيرة رفعت جدراناً في وجههم ورفضت - كما كندا - منحهم
تأشيرات دخول أو لجوء أو هجرة. وهذا يدفع من هم خارج التفكير العنصري (وخارج
الاهتمامات السياسية المتخطّية الخريطة الأوروبية) الى اعتبار حكوماتهم شريكةً في
المسؤولية عن موت الهاربين من الجحيم إليها، ويقودهم الى تنظيم المبادرات
الإنسانية المرحّبة باللاجئين والمساعِدة لهم.
العامل
الثالث، وقد يبدو كما العامل الأوّل مُستنكراً، هو "جمالية" الصورة
و"عالميّتها" أو "لا جنسيّتها". فوضعية إيلان النائم على
الرمل بكامل ملابسه وبحذائيه الصغيرين، وانتظار مشاهدي فيديو العثور عليه أن يرفع
رأسه حين تلامس الأمواج وجهه، والسكينة على الشاطئ من حوله، كما المفارقة الصارخة
في استلقائه الوديع من جهة ووقوف شرطي قبالته مسجّلاً ملاحظات إدارية من جهة
ثانية، وغياب ملامحه "الخاصة" بما يحيله طفلاً بلا جنسية، أي مجرّد طفلٍ
يخشى كلُّ أهل إن يتّخذ وجهه وجه ابنهم إن استدار أو حدّق في عيونهم، جميعها عناصر
بَنَت جماليّة ما وأسرَت الأنظار رغم الصدمة ورغم هول الموت.
بهذا،
يمكن القول إن غياب الدم والأشلاء، و"شكل" الصورة وحياديّتها، حرّكت
تضامناً واسعاً وعواطف قلّ حضورها في ما يخصّ سوريا في السنوات الماضية. وفي الأمر
ما يدفع الى البحث من جديد في معنى "الصورة السورية"، وفي معنى (أو لا
معنى) التلقّي البارد عالمياً للمآسي الماثلة فيها، وفي سُبل بلورة خطابٍ إنساني
يسير بموازاة الخطاب السياسي ويرفده. وهذا لا يبرّئ "العالم" في شيء من
بلادته الأخلاقية، ولا يعدّل من تحمّله المسؤولية غير المباشرة عمّا آلت إليه
الأمور في سوريا منذ العام 2011. لكنّه يدفع ربّما لإعادة كتابة جوانب من
التراجيديا السورية إنطلاقاً من حالاتٍ كحالة إيلان، الذي سجن الأسد أباه (في فرع
المخابرات الجوية)، ثم هربت عائلته من دمشق الى حلب، ثم من حلب الى كوباني، ومن
هناك الى تركيا بعد هجوم "داعش" على المدينة الكردية...
موت
إيلان المصوّر، افتتح مرحلةً جديدة في ما خصّ النزوح واللجوء السوريّين في الحوض
المتوسّطي. وعلى المتأثّرين بذلك والمعنيّين به أن يعملوا لتذكير "العالم"
- بعد مواكبة انفعالاته وفهمها - بأسباب تهجير هذا الطفل السوري، وفاءً له ووفاءً لغيره
من الأطفال المُعرّضين في المقبل من الأيام لتلاطم الأمواج بعد أن فرّوا من شظايا
البراميل.
زياد ماجد