لم يسبق لحرب أو لثورة أو
لمجازر أن شاهدها المتابعون "مباشرة" عبر مئات ألوف الأفلام والصوَر. الثورة
السورية هي الحدث الأوّل المصوّر بهذه الكثافة، إن في تفاصيله الأكثر مأساوية أو
في المسحات الفنّية والإبداعية التي ترافق أحداثه وتطوّراته. كما أنه الحدث الأكثر
عُرضة للمتابعة البصريّة بكاميرات أصحابه، متظاهرين ومقاتلين وقتلى وقتَلة ومواطنين
صحافيّين يشهدون البهاء أو الأهوال.
وإن كان لهذا الأمر فضيلة، قائمة
في الأرشفة وحماية الشهادات والتوثيق وحفظ الإنجازات وبناء ذاكرة الغد، وإن كان له
بعدٌ سيُفيد يوماً في دراسة أطوار التأريخ بالصوت والصورة ومعنى العمل المواطني –
الإعلامي وأثر الهواتف المحمولة وعدساتها ومواقع التواصل الاجتماعي على الكتابة
السياسية والإجتماعية، فإن جوانب مقلقة وخطيرة (ومُحيّرة) تنبعث منه أيضاً.
من هذه الجوانب مثلاً أننا في
الحالة السورية أمام استثناء نرى فيه وجوه المجرمين المباشرين ونسمع أصواتهم وبعض
حواراتهم. نرى السجّانين والجلّادين وهو يعذّبون أو يغتصبون أو يقتلون. نراهم وهم
يُحاورون الضحايا. نرى القنّاصة وهم ينتظرون طرائدهم، ونرى بعضهم يتّصل بأهل
وأقارب مبشّراً بما سيفعل مشرِكاً المتَّصَل بهم بما يمارس أو بما ينوي ممارسته.
هكذا، تبدو الأهوال أموراً محلّية
"عائلية" نكاد نعتاد متابعتها، ينفّذها قتَلة بوجوه "أليفة"
تشبه الوجوه التي نصادفها في الحياة اليومية. وهكذا يُصبح القنّاص احتمال جارٍ
يُقيم في مبنى مقابل، والمغتصب احتمال بائع قهوة التقينا ابتسامته ذات صباح، والمعذِب
أسراه بالسكاكين احتمال قريب لزميل في العمل أو لبوّاب مدرسة الأولاد. والمخيف في
الأمر أن هذا الانكشاف التام لملامح القاتل اليومي، عسكرياً كان أم عنصر مخابرات
أم شبّيحاً أم مدنياً حامل سلاح، يُصعّب الشفاء في المقبل من الأشهر أو السنوات من
لعنات العنف. ذلك أن ما يُعرف ويُروى شعبياً بعد الحروب أو الثورات لا يدخل عادةً في
تفاصيل القتل ومنفّذيه. فمع توقّف العنف أو "إبرام الصلح" يختفي القتَلة
المجهولو الوجوه بين الناس ولا يَعرف كثرة خارج دوائرهم ما فعلوا. وإن نالت
المحاكمات من بعضهم، يتحوّل الباقون الى "مواطنين عاديّين" أو يحملون في
دواخلهم ذكريات وأمراضاً وأسراراً قد يروونها يوماً أو يطويها النسيان. فيبقى بذلك
القنّاص في مخيّلة الناس مخلوقاً مجهولاً لا عيون له ولا أسماء علم، ويبقى واضع العبوة
الناسفة مسخاً لا مجال لوصفه، والذابح بالسكّين شبحاً يستحيل اعتباره شبيهاً بالمارّين
على الرصيف المقابل.
أما هنا، في سوريا، فلا يمكن
التكهّن بما ستنتجه ثقافة صوَر القاتل والضحية على حد سواء. هي التجربة الأولى
التي نرى فيها وجوه القتَلة "لايف". نرى الموت يتدفّق من أفواه وأيادٍ
وأصوات، ونراه يهبط فردياً أو جماعياً من أشخاص يمكن لسوريّين أن يعرفوهم وأن يعرفوا
أماكن عيشهم. وفي نزع القناع عنهم ما يُنهي فرضيّات بقائهم في المتخيّل الجمعي كائنات
مجهولة تصعب ملامسة تفاصيل وجوهها والتنبّه الى كلماتها والتطبيع المُفترض اللاحق
في الحياة اليومية مع ذويها.
صوَر سوريا هي إذن في جوانب
منها أكثر من شهادات وتوثيق وتأريخ ومادة دراسة. هي مرآة لبعض ما يمكن أن يُخرجه
مجتمع في لحظة انفلات العنف الذي زرعه النظام على مدى أربعين عاماً فيه. وهي تمرين
على تجاوز الدمار الإنساني، بمعنى أنها تمرين على التسامح (المستقبلي) المطلوب مع أطفال
القتَلة السافري الوجوه، وليس معهم هُم. وهي بذلك محاولة شاقة للرؤية بالعقل
أوّلاً وآخراً، ولو من خلف الدموع أو الذهول، الى أن تُتيح الأزمنة القادمة رؤيةً
من خلف افتخارٍ بطيّ صفحة دموية مروّعة، الى الأبد...
زياد ماجد
مقالة للعدد 28 من جريدة "طلعنا عالحرّية" التي تُصدرها لجان التنسيق المحلّية في سوريا