"بدّك حرّية ولَك حيوان!؟"
يسألُه الجندي الوضيع مُستهجِناً، وهو يُوسِعه ركلاً وشتما. يأتي صوتُه القبيح متهدّجاً نتيجة الانفعال وحماسة الضرب. الجندي الثاني الذي يصوّرُ المشهد لتخليد الإهانة والتباهي بذِكراها يتصاعد صوته بين الحين والآخر عاطِفاً على الاتهام بطلب الحرّية صفة الخيانة.
"حرّية ولى خايِن!؟"
ويَشي اهتزازُ الكاميرا باندفاعِه، بعد التعجّب المتفجّعِ من الخيانة، للمشاركة في التعذيب.
الشابُ المضروبُ والمطروحُ أرضاً يُحاولُ الاحتِماء. يَطوي جِسمَه لِحماية ما تيسّرَ من أعضاء. يبدو كمَن يَحمي لحمَه بِلحمِه أو بِعِظامه.
يستفزّهما بِصَمته وببعضِ صرخات الألم التي يُطلِقها والتي لا تشي بأي نَفيٍ لتُهمة طلب الحرّية. يزدادان هولاً وعنفاً ودعساً على جسمه ورأسه.
بماذا يُمكن أن يُجيبَ هذا الشاب ليوقِفَ التعدّي عليه؟ ليردع الكائنَين المُنحطّين أو ليخفّف على الأقل حِدّةَ همجيّتِهما.
ماذا يقول؟ هل ينفعُ كلامٌ مع مِثل هؤلاء؟ هل يُمكنُ لنقاشٍ أن يَدور معهُما أو حولَهما أو حولَ القِصة هذه بأكملِها؟ هل مِن مشهدٍ محزن يُمكن أن يتخطّى هذا المشهدَ سورياليةً؟
الصوتُ الناهِرُ على وَقعِ الضرب يعودُ مُتصاعداً: "حرّية يا كلب؟.... اركَع!... مين ربّك ولى؟"
وتُقدَّم الى الشابِ الجَريحِ صورةٌ مُبَرْوزَةٌ لِبشّار... "اركَع بوس ربَّك ولى حيوان!"
هل تنتهي اللحظةُ الهمجيّةُ هذه بقبلةٍ للصورة-الرّبِ تُؤكّدُ الاستسلامَ وتُسقِطُ تهمةَ الحرية؟!
فلْيَكُن، إن كان الأمرُ يُخفّفُ أوجاعَ شابٍ في مُقتبلِ العُمر، تَفصِلُنا عنه وعن أنينِه ساحاتٌ وسجونٌ... وشاشاتُ كمبيوتر.
لكن الشابَ يأبى أن تنتهي قِصّتُه على هذا النَحو. يَرفضُ أن يُسدَل المشهدُ على ظفرٍ، ولو تافهٍ، للوحشَين وسيّدِهما.
يكشِفُ وجهَه الذي كان تكوّرُه يُخفيهِ ويدفعُه ببطءٍ نحو الصورة صامتاً. يبدو لثانيةٍ كمَن نسِيَ أنّ عصا وحذاء مُسلّطان عليه لا يَفصلُ ارتفاعَهما ثم سقوطَهما سوى تلك النسمة التي لامَسها وجهُه في انكشافِه المتوجّهِ صوبَ الصورة.... ثم يبصُق!! هَكذا بلا مقدّماتٍ ولا موسيقى تصاعُدية ولا نظرة تحدّي يصوبُّها نحوَ الكاميرا على عادةِ الأبطال... يبصُق وَيستبقُ تبعاتِ الصدمة في أرجل وأيادي الوحشَين، فيعودُ مباشرةً الى وضعِيّة التكوُّر وحِماية بعضِ الجسد.
أعَدتُ المشهدَ لأتأكّد! الشابُ فعلاً بصقَ على الصورةِ وعلى صاحبِها وأبيه وتاريخِ استبدادِهما وفظائعهِما كلِّه.
هكَذا، في لحظةٍ ينقبضُ لها القلب، باحَ هذا الشابُ السوريُ ببصقتِه، كَمن يبوحُ بروحِه. باحَ باحتقارِه للتعذيبِ أدواتٍ رقيعةً ورئيساً وتاريخاً وصوَراً مُبروَزة!
وهكذا لخّصَ فيلمٌ من دقيقةٍ وبضع ثوانٍ كيف يتداعى نظام عمره 41 عاماً من القهرِ في بَصقة... في عنفوانِ شاب أعزلٍ إلا من تُهمة الحرّية التي أراد تأكيدَها وإشهارَها هويّةً لهُ وقضية، ودِرعاً يَقي كبرياءَه المُحلّقَ في تلك الغرفة، العابِقَ في سوريا بأكملِها...
زياد ماجد