يفكّر الناس عادة – بعد ذويهم وصحبهم - بما قد يحلّ بمشاريعهم وأوراقهم إن ماتوا قبل ترتيب الجوارير والملفّات، أو قبل إنهاء ما كرّسوا له الوقت والجهود. ومع مجيء الفضاء الافتراضي، صار التفكير يتّجه لأسئلة من نوع: ماذا يجري للإيميل أو للمدوّنات أو للمراسلات السابقة؟ ماذا يحلّ بصفحات الفايسبوك التي بنوا بها وفيها صداقات وراكموا تعليقات وصوراً وروابط تصير أرشيفاً وذاكرة ونتفاً من الحياة؟ هل يمكن توريث الحسابات لِمن بمقدوره المحافظة عليها وإبقائها حيّةً؟ وماذا يجري لكلمات المرور والعناوين التي تُسجَّل هنا وهناك إن لم يتركوها لأحد يستخدمها أو يطفئ غير اللازم منها؟
وقد بقيت هذه الأسئلة افتراضية تشبه العالم الذي تنطلق منه، الى أن بدأت التجارب المعلّقة عليها تجتاح حياتنا كل يوم. تأتينا من سوريا. من مكان يحسب الواحد أن الفايسبوك واليوتيوب، والانترنت عامة، يخيّمان عليه، يظلّلانه بشبكة من الروابط التي تتكاثر وتتناسل وتتيح نقل ما يجري من أهوال وما يُسطَّر من ملاحم أو يُرسم من معالم لمستقبل سيعيد للحياة توهّجها الذي تستحقّ.
بدأت الأجوبة الواقعية على التساؤلات الافتراضية تظهر. صفحات تنطفئ الحياة فيها لانطفائها في أجسام أصحابها، وصفحات أخرى تلد تخليداً لهم، ثم تتحوّل في ذاتها الى حياة تتوالى أخبارها وصوَرها ويشارك أحياءٌ في مدّها بمشاعر "اللايك والشير" وكسب صداقاتها وتعميمها. يَخال الواحد أن الفقيد الذي رُفعت باسمه يشارك في التواصل ويجمع المعنيّين بموته (وأحياناً بحياته السابقة) مولّداً ودّاً وتضامناً بينهم لم يكن موجوداً قبل أن ترديه رصاصات الغدر.
أكثر من ذلك، صار المعتقلون أو المخطوفون يتمثّلون مباشرة بصفحات تُعدّ لهم ما إن تبتلعهم الأقبية المظلمة، فَتنسج حكاياهم وتمنع تجميد الوقت في غيابهم. ننضمّ الى مساحاتهم المؤقتة هذه، نفرح بتزايد عدد المنضمّين معنا كأنهم يقولون إن الصداقة تزداد ترسّخاً نتيجة الانقطاع القسري المُعوَّض. نفتح صفحاتهم القديمة إن كانوا في عداد الأصدقاء لنعرف ما إذا كان الوحوش قد انتزعوا كلمات السر إليها، أو أطفؤوها، أو إذا كان رفاق نجحوا في طيّها ريثما يعود إليها أهلها الأصليّون. نكتب لهم تضامننا أو نكتفي بتوزيع "لايكات" على ما كُتب، تحيّي الكتّاب والمكتوب عنهم.
قيل إن الباحثين بالغوا في تقدير فضل التكنولوجيا ومواقع التواصل الاجتماعي على الربيع العربي، وهذا صحيح. لكن هل كان الربيع، وتحديداً في فصله السوري، هو نفسه لو لم يحوّل الفضاء الافتراضي الثورات بأوجاعها وإبداعاتها ومآثرها وغناها الإنساني الفائض الى كيانات نلمسها على شاشاتنا ونلمس أصحابها وصورهم ونقرأ لهم ما يكتبون؟ بالتأكيد لا. وبالتأكيد أن فايسبوك سوريا لا يشبهه فايسبوك في العالم اليوم. فهو الأقل افتراضيةً والأكثر شبهاً بأهله... هو فعلاً من لحم ودم.
زياد ماجد