تشي المواقف اللبنانية والسورية الرافضة للمحكمة الدولية (المختلطة) بأمرين أساسيّين.
الأول، إيثار قيم قروسطية، حيث العدل شأن خاص وحيث القتل والعفو لا يخضعان لقانون بل "لولاية دم" أو لسعة عضلات وكثافة نيران.
والثاني، اعتناق تصوّر تسطيحي هجين للعلاقات مع العالم، لا مكان فيه لغير المكائد والتآمر والكراهية.
في الأمر الأول، يركّز نقاش الرافضين حول فكرة بسيطة مفادها: ثمة قتل جرى، وكل بحث عن المسؤولين عن ملابساته سيؤدّي الى قتل إضافي والى فتنة وربما حروب. لذلك، على المعنيين أن ينسوا الدم والقتلى، وأن يقبلوا "بعدالة السماء" فيطووا الصفحة على "الأرض". وإن رفضوا، عليهم تحمّل تبعات الأمر ومواجهة المزيد من الدماء والحرائق.
ثم يُبنى على الفكرة هذه نزوع نحو سلوكيات الثأر أو العفو تحت مسمّى "ولاة الدم". فإن عفا الولاة هؤلاء انتهى الموضوع، وإن أصرّوا على معرفة ما جرى تأجّج التآمر وفاض التوتّر. وفي ذلك، رفض ليس لمحكمة في ذاتها، أو لقرار محدّد فحسب، بل انقلاب على الفلسفة التي قام عليها علم القانون نفسه، وهي تلك التي تُخرج منطق الحق من الحيّز الخاص لتحوّله شأناً أو فضيلة عامة. وفي ذلك أيضاً تبرير لشريعة الغاب حيث يأخذ كل امرئ (أو دولة) حقّه تبعاً لقوة ساعديه (أو عبواته الناسفة)، من دون تدخّل قانوني ومن دون محاسبة...
وفي الأمر الثاني، يعبّر رفض "كل عدالة تأتي من المجتمع الدولي" عن معاداة متأصّلة للعالم، لا ينفع مع تبريرها التحجّج بجرائم إسرائيل المستمرة وإفلاتها من العدالة، إلا إن كان المقصود أن يصير القتل والاغتيال مباحَين من بيروت الى دمشق (فبغداد ودارفور) طالما أن إسرائيل تمارسهما فوق الأرض الفلسطينية
ورفض العالم وهجاء "عدالته" تواكبهما على الدوام اتهامات لأطرافه بالسهر على تحضير المكائد والسعي لزرع الفتن عندنا. أما ما قد يوقظ الأخيرة، وهي بحسب المحذّرين منها اليوم سنية شيعية، فقرار ظني يكتبه "المحقق الخبيث" بلمار. هكذا، يصير بلمار مشتغلاً بشؤون عائشة أم المؤمنين ومقاصدها، وعابثاً بموقعة كربلاء وضحاياها، وعلينا أن نقتنع أننا لولا شغله وعبثه وحقده، ولولا العالم الذي لا يغفو له جفن قبل إكمال واجب التآمر علينا، لما كانت لنا صلة اليوم بماض سحيق يحرّك "نواصب وروافض" ويدفعهم لحمل السكاكين، ولما عصفت ظلامية أو احتلّ استبداد حواضرنا من المحيط الى الخليج... فقط بلمار، ومن خلفه المتآمرين واللبنانيين المطالبين بالتحقيق في جرائم وقعت بين بيوتهم وقتلت من أهلهم وصحبهم من قتلت، فقط هؤلاء، هم من سيوقظ فتنة أين منها كل الفتن السابقة...
ملاحظة على الهامش: يبدو مشهد المشكّكين بالمحكمة الدولية "المسيّسة وفاقدة المصداقية" والهائجين في وجه العالم ومؤامراته ولا عدالته مضحكاً وهم يصفّقون لاستنابات (أشبه الى النكات السمجة) تصدرها محكمة سورية، لا يرون فيها غير نأي عن المؤامرات والتسييس وتجسيد للعدل وحكمه (في بلد يحكم أهله قانون الطوارئ والمحاكم العسكرية منذ العام 1963)...
زياد ماجد