يُقيم معهد العالم العربي في باريس هذه الأيام معرضاً بعنوان "ديفا عربيّات: من أم كلثوم الى داليدا". يشمل المعرض صوراً وألبسة وحاجيات شخصية وملصقات وأفلاماً قصيرة إضافة الى تجهيز وفيديوهات ومقتطفات من حفلات غنائية لأم كلثوم وفيروز وأسمهان وليلى مراد وداليدا ووردة. ويشمل المعرض أيضاً أجنحة، واحدها يعرض مجلّدات ووثائق لرائدات النسوية العربية في القاهرة، هدى شعراوي وزميلاتها، ولكاتبات وصحافيات (مي زيادة وروز اليوسف)، وآخر يذكّر بتاريخ الرقص والفنون وتحدّي نساءٍ (مثل بديعة مصابني ومنيرة المهدية) لتصنيفات ذكورية أسقطت أحكاماً قيمية على عروضهنّ وأماكن العروض (الكباريهات ومسارح العوالم)، فيما يستعيد جناح ثالث حقبات السينما المصرية الذهبية ويكرّم نجماتها، من البدايات الى هند رستم وفاتن حمامة وسعاد حسني، ويركّز رابع على ملصقات ومقابلات مع فنّانات عبرنَ السينما ليتكرّسن في مجال الرقص والغناء، مثل تحيا كاريوكا وسامية جمال وصباح وأخريات.
وبمعزل عن بعض الملاحظات التي
يمكن إيرادها حول نقصان في سياق معيّن، أو إضافات قد لا تكون في محلّها في سياق
آخر، أو إقحام مبالغ فيه لداليدا في التراث الغنائي والسينمائي العربي، فإن أكثر
مساحات المعرض جميلة وفيها الكثير من التفاصيل التي تدفع للتفكير في مسائل فنّية
وثقافية وسياسية مختلفة.
أبرز هذه المسائل، هي مسألة
مآلات نهضة الثقافة العربية التي انطلقت من القاهرة الكوسموبوليتية في النصف
الثاني من القرن التاسع عشر، واستمرّت حتى أواسط القرن العشرين. إذ شهدت المدينة
الأكبر في المشرق حينها حراكاً ثقافياً ساهم فيه أبناؤها وبناتها وساهم فيه وافدون
إليها من لبنان وسوريا وفلسطين (الشوام)، وتلاقى حوله أيضاً وافدون آخرون من
العالم العثماني المتراجعة قوّته أو من مناطق توسّعت السيطرة البريطانية فيها
وتجوّل بعض مثقفيها في أرجائها منتقلين من موضع الى آخر. وأغنى التنوّع الديني
(مسلمون ومسيحيون ويهود) والثقافي (أوروبيون وورثة الحقبة النابوليونية القصيرة)
هذا الحراك، تماماً كما أغنته الترجمات والمطابع الحديثة وظهور المسرح والصحافة
وانتشار السجالات في أوساط ثقافية حول الدين والعلمنة والإصلاح السياسي ونظريات
النشوء والارتقاء وعلم النفس والاشتراكية المادية والأنوار والليبرالية السياسية
وحقوق المرأة.
والقضية الأخيرة، أي حقوق
المرأة، التي يستذكر المعرض الباريسي بدايات البحث فيها، نهضت في عشرينات القرن
الماضي بخاصة، بعد جهود هدى الشعراوي ونبوية موسى وسيزا نبراوي وزميلات لهنّ أسّسن
الاتحاد النسوي المصري، وكنّ رغم انتمائهن الى أسر مرفّهة ودوائر نخبوية ملتزمات العمل
من أجل انتزاع حقوق النساء في مجالات التعليم والصحة والتصدّي للدعارة والاستغلال.
كما كنّ مواجهاتٍ للسائد في ما خصّ الأحوال الشخصية وشؤون الطلاق والحضانة وتعدّد
الزوجات والنقاب. وإذا كانت كتابات قاسم أمين السابقة على تأسيس الحركة النسوية في
القاهرة ومواقف الطاهر حداد المرافقة واللاحقة لها في تونس اشتُهرت أكثر من كتابات
الشعراوي ونضالات زميلاتها، فإن الفضل الكبير يبقى لهنّ في تأسيس تراث نسوي تغذّى
لاحقاً بإسهامات نظرية وبكفاحات ميدانية خاضتها نساء من طبقات اجتماعية مختلفة.
وترتبط بقضية المرأة
وتحريرها، قضايا الحرّيات العامة والخاصة بمجملها، ومسائل المشاركة السياسية والنظم
الانتخابية والقوانين والتشريعات التي تنبثق من مؤسسات الدولة البطركية أو من
الصُروح الدينية. وهذا كلّه كان من أبرز المواضيع التي دارت حولها النقاشات
وتصاعدت في مرحلة كان التنوّع السياسي من معالمها (في مقابل انسداد أفق الارتقاء
الاجتماعي وترسّخ الفروقات بين أرستقراطيات وبرجوازيات تتوارث المُلك والجاه،
وأكثريات من مناطق ريفية أو من أصول فلاحية ظلّت مهمّشة ومُبعدة عن العديد من
خدمات الدولة المركزية).
ورغم أن قضية المرأة تعرّضت
بعد الاستقلال في مصر وفي غيرها من دول المنطقة الى تجاذب جعل تيّارات قومية
ووطنية ليبرالية وإسلامية تعتبر إثارتها استجابةً لأجندات الاستعمار من قِبل نُخب متغرّبة
أو منفِّذة لمراميه بعد انكفائه المباشر، إلا أن تمسّك نسويات بها وجهدهنّ المستمرّ
أبقاها حيّة وترك في مجال الثقافة والفنون (الكتابة والغناء والرقص والتمثيل في
المسرح والسينما والتلفزيون) آثاراً عاشت طويلاً ولم تكن استثناءً أو حالات معزولة.
فهي استقطبت الجماهير المصرية والعربية الأوسع، ودفعتها للقبول بسلوكيات والتطبيع
مع قصص وروايات وعروض والتسامح مع قيَم كان يمكن لعمل حقوقي وسياسي منظّم أن
يترجمها مع الوقت الى ثقافة اجتماعية معمّمة محميّة بتشريعات جديدة، بعيداً عن أي
ابتزاز بالغرب والاستعمار. لكن النكبة الفلسطينية وقيام إسرائيل، وتداعيات الحرب
الباردة على المنطقة، والانقلابات العسكرية وقوانين الطوارئ المانعة كل مشاركة
سياسية، ثم العنف وردود الفعل عليه وصعود تيارات إسلاموية شديدة الانغلاق استفادت
من الطفرة النفطية، وصولاً الى مفاعيل الثورة الإيرانية والصراع الإيراني السعودي
من بعدها، أجهضت جميعها مساراً كان يمكن لو تواصل من دون انتكاسات أن يراكم تجارب
أو أن يحرز خروقات في أكثر من ميدان ومجال.
بهذا المعنى، ليس القول في مسؤولية التطوّرات الاستراتيجية الإقليمية والدولية في إجهاض المسار النهضوي والمساهمة في قمع النضال النسوي نفياً للعوائق الذاتية والموضوعية الهائلة ولضعف التكوينات السياسية وصلابة العصبيات الجهوية والطائفية والقبلية وغيرها، ممّا بوسعه إنهاك الجهود التغييرية وتصعيب مهامها. لكن تخيّل الأسئلة مشروع عمّا كان لِتوالي التجارب وإسقاط الحواجز أن يفعل لو انعدمت الصراعات "المصيرية" الخارجية وتبعاتِها وأخذت العلاقة مع الغرب أشكالاً أقلّ توتّراً، وبقي العسكر في ثكناتهم، وانحسر التنافس على النفوذ الإقليمي وعدّة شغله المادية والرمزية (المذهبية) وما تبعثه من عنف وتطرّف. فأزمنة النهضة كانت غنية بالاحتمالات، والتجريب وحده واكتشاف العثرات وسبل الاختراقات وإنضاج المُعاش وتحسين شروطه تدريجياً هي ما يضمن سيراً ثابتاً نحو الإصلاحات والتحوّلات السياسية والمجتمعية.
غير أن مسارات المنطقة السياسية
بمعظمها تعرّضت لبتر وتقطيع أوصال، وأتاحت للأوهان والأزمات الكامنة أن تصبح
العنصر الطاغي. كما سمحت لأهل الانقلابات والقمع والنهب أن يتذرّعوا بكل المثالب والضغوط
الخارجية والداخلية ليفرضوا خياراتهم ونهمهم للسلطة المطلقة ولتأبيد تملّكها، ولو
كلّف الأمر تدمير المحكومين وإبادة ما انتزعوا في مراحل سابقة من حقوق ومساحات
عامة وهيئات انتظام طوعي.
هكذا، يصبح التندّر اليوم على
الفرص الضائعة وتطارح الأسئلة حول أسباب ضياعها أكثر ما يمكن لمعرض جميل، كمعرض
"ديفا العالم العربي" أن يثيره. وهكذا أيضاً، يصبح الحزن على مآلٍ أو
الحنين لحقبةٍ بدت واعدةً وحاولت الثورات العربية مؤخراً استعادة جوانب منها،
بحثاً عن زمن ضائع لا شكّ أن العودة لاستئنافه ما زالت عسيرة.
زياد ماجد
مقال منشور في ملحق القدس العربي