يجمع كتاب نوّاف سلام «لبنان بين الأمس والغد»، الصادر في أيار/ مايو الجاري عن «دار شرق الكتاب» في بيروت بنسخته العربية وعن «دار أكت سود» في باريس بنسخته الفرنسية، ثمانية نصوص طويلة سبق أن نُشرت بين العامين 1988 و2007 قبل تحديثها وتبويبها وتقديمها هذا العام. والنصوص هذه هي أبحاث في ثلاثة محاور.
الأول، يعود الى نشأة الطائفية اللبنانية وتمأسسها والعصبية (الخلدونية) التي رافقت ترسّخها وغذّته سياسياً ومجتمعياً. ويتطرّق الى مسألة المواطنة التي يقول سلام بتعذّرها حتى الآن، بمعنى أنها لم تكتمل بوصفها مدخلاً للمساواة بين اللبنانيين واللبنانيات أو منطلقاً لتعاقداتهم بمعزل عن انتماءاتهم للكيانات الطائفية وما تفرضه في الانتظامين الاجتماعي والسياسي. كما يتطرّق المحور الى الدولة اللبنانية الناقصة، التي، منذ صياغة دستورها وفلسفة حكمها العام 1926 بعد ست سنوات من إعلان الانتداب الفرنسي قيام لبنان الكبير، مروراً بميثاقها الوطني المرافق للاستقلال العام 1943، وصولاً الى التطوّرات التي أصابت لبنان العام 1958 ثم عقب اندلاع الحرب الأهلية العام 1975 وانتهاءً بالأزمة الكبرى الراهنة، ظلّت على وهن وانعدام سيادة تجاه الكيانات الطائفية (رغم تكرّس «مشروعية» البلد نفسه التي كانت موضع تشكيك أو تساؤلات لعقود تلت تأسيسه).
المحور الثاني، يخوض في تأريخ موجز لأسباب الحرب الأهلية ومساراتها وانكشافها على التدخّلات الخارجية المفضية الى هيمنة سورية واحتلال إسرائيلي للجنوب. ثم يتوقّف عند اتفاق الطائف ووعود السلام والإصلاح التي أرساها نظرياً، مذكّراً أن الاتفاق استند في مواده الى ما كان قد سبقه منذ العام 1976 من مسودّات وثائق ومبادرات فشلت في انتزاع موافقات عليها وقتها، فيما نجح هو في العام 1989 لأسباب إقليمية ودولية وداخلية مختلفة. وإذ حسم الاتفاق «نهائية الكيان اللبناني» ومهّد لإنهاء الاقتتال، أحدث في الوقت نفسه تعديلات على جوانب في بنية النظام وتوزّع الحصص الطائفية فيه وعلى هيكل السلطة التنفيذية وصلاحيات رئيس الجمهورية. ورغم دعواته لاستقلالية القضاء وللامركزية الإدارة ولتخطّي الطائفية السياسية، إلا أنه بالفعل كرّس الأخيرة فبقي العبور منها الى المواطنة المتساوية وعداً لا تحقّق له ولا اقتراب حتى اليوم من هذا التحقّق.
المحور الثالث والأخير للكتاب، هو خلاصة القول في الإصلاح المنشود وفي ميادينه السياسية الأساسية: النظام الطائفي وقانون الانتخاب وعدالة التمثيل والحقل الدستوري وأبوابه. وسلام، يفرد هنا مجموعة أفكار ومقاربات واقتراحات يرتبط بعضها بتجربته الشخصية (في اللجنة الوطنية التي تشكّلت لإصلاح القانون الانتخابي) وبعضها الآخر بمراقبته للحياة السياسية اللبنانية على مدى سنوات طويلة وانخراطه في كثرة من فعالياتها.
الطائفية وإشكاليّات التعامل معها
لا شكّ أن أهمّ قضايا الإصلاح وتحدّياته اليوم، يرتبط بالمسألة الطائفية وتبعاتها على جميع المستويات. ويظهر الأمر جليّاً في أوراق الكتاب وفي المنطق الضابط له كرونولوجياً وتبويباً. كما يظهر في الدعوة الى الانتقال من حقبة طويلة ظلّت الطائفية طاغية في جميع مراحلها الى حقبة ينفتح أفقها على المواطنة و»الدولة المدنية المكتملة».
على أن الخوض في الطائفية صار يفرض اليوم، في العام 2021، أسئلة ثلاثة يصعب تجنّب
البحث فيها وفي أثرها على الإصلاحات انطلاقاً من التجربة المُعاشة في العقدين
الأخيرين، وانطلاقاً من دعوة الكتاب نفسه الى قيام «جمهورية ثالثة».
السؤال الأول هو حول الديمغرافيا اللبنانية الطائفية وانتقالها من قسمة مسيحية
مسلمة الى قسمة سنية شيعية تفرض على المسيحيين خيارات وتموضعاً تبدو في السياقات
الطائفية اللبنانية بحثاً عن استقواء بفريق (وبحلفائه الخارجيين) ضد آخر (ورعاته
في الخارج أيضاً). وهذا يعدّل من حيث المبدأ والممارسة فلسفة «المشاركة» الميثاقية
ويدفع باستمرار نحو شكل من أشكال «المثالثة» التي تُفاقم من صعوبة اتخاذ القرارات
وتسيير أمور الدولة وتقوّي العصبيات الطائفية والمذهبية وتزيد من انكشاف الساحة
المحلية على الصراعات الإقليمية ومحاورها.
السؤال الثاني هو حول الديمقراطية التوافقية وما بقي من فلسفتها وآليات فض النزاعات عبر الاحتكام الى قواعدها. ذلك أنها إذ صُمّمت لتأمين أوسع مشاركة سياسية ولاحترام التنوع والانتماءات المختلفة وتجنّب الاستبعاد أو التهميش الذي قد تُنتجه الديمقراطية الكلاسيكية (المستندة الى مبدأ الأكثرية) في مجتمعات تتقدّم فيها الانقسامات العامودية على تلك الأفقية، تحوّلت في لبنان عبر أشكال الممارسة المعتمدة ونتيجة التبدّلات التي طرأت على الاجتماع السياسي وعلى تمثيل الجماعات الطائفية وخصائص نخب ما بعد الحرب الحاكمة، الى صيغة عاجزة عن تأمين الاستقرار ومعطّلة في ذاتها لتسيير شؤون الدولة وتشكيل الحكومات وانتخاب رؤساء الجمهورية. كما أن ما يُسمّى بحقّ النقض فيها صار المبدأ الذي يُلوَّح به سلفاً كلما افترقت خيارات أو اختلفت وجهات، بما أحاله الى عنصر مناكفة وصراع دائمَين والى منطلق للابتزاز السياسي باسم حقوق الطائفة وضمان أمن الجماعة وحسن مشاركتها.وهذا يدعونا للتذكير بأن أزمة الحُكم التي نعيش استمرارٌ لأزمات استفحلت منذ أواخر الثمانينات، إذ لم تجرِ منذ ذلك الحين انتخابات رئاسية «عادية» واحدة، ولم تتشكّل حكومات من دون جولات مكّوكية وتسويات غالباً ما فُرضت من دمشق ثم من الرياض وطهران، ممّا عنى في معظم الأحيان انتقال القدرة على الحسم ليس الى خارج المؤسسات الدستورية وما عُرِف بترويكا الحُكم فحسب، بل الى خارج البلاد أيضاً.
يُحيلنا ذلك الى السؤال الثالث، وهو إمكانية الخوض بالإصلاحات والانتقال الى «جمهورية ثالثة» من دون التوقّف عند ظاهرة العلاقة بين الداخل والخارج التي تحوّلت مع صعود حزب الله وإبقائه على ترسانة أسلحته الى شأن تطغى الخشية منه ومن تداعياته على الحياة السياسية في البلد وعلى موازين القوى فيه وعلى أمنه واستقراره. ومع الإقرار بانتفاء المقدرة على البتّ بالأمر نظراً لارتباطه بما قد يتمّ من اتفاقات بين واشنطن وطهران أو من تفاهمات إقليمية ودولية لا وزن أو اعتبار لقرارات لبنانية فيها، يتعذّر على برامج الإصلاح في الوقت عينه تجاهله وعدم تشريحه والإشارة الى كونه عقبة كبرى أمام التغيير ومهامه الوطنية.
الأفكار وأدوات العمل
يُعيد كتاب نواف سلام، بمعزل عن الأسئلة التي لم يتطرّق كفايةً إليها (كتلك المشار إليها آنفاً) بسبب خيارات النشر وتواريخ بعضه أو اختصاصية بعضه الآخر، الاعتبار الى قيمة البحث العلمي السياسي في فترة تبدو فيها أبواب التفكير بالماضي والحاضر والمستقبل موصَدةً، ومثلها سبُل العمل من أجل الإنقاذ والتغيير بعد كلّ ما أصاب لبنان من كوارث سياسية واقتصادية ومالية. وهذا يعني أن استكمال كتابه والبحث الموازي لقراءته عن أطر جماعية تتبنّى الطروحات الإصلاحية وتُحوّل القول الى أدوات عملٍ هما مهمّتان سياسيّتان من أهمّ مهام المرحلة التي نعيش وأكثرها صعوبة.
يبقى أن نقول إن في الكتاب مرآة لجهود نواف سلام، المحامي والديبلوماسي والقاضي والباحث السياسي، ولقسم من أبناء وبنات جيله ممّن اشتغلوا في الحقل العام وبذلوا ما بوسعهم خلال أكثر من نصف قرن للتأثير في شؤونه وتقويمها. وفي هذا ما يُشهد به لهم، لأنهم أبقوا للسياسة بمعناها النبيل اعتبارها وجاذبيّتها للجيل الذي تلاهم ولِمن سيتخطّاهم في عمله وجهده من جيل الحاضر والمستقبل.
عسى أن يكون صدور الكتاب محطةً لنقاشات حيويّة جديدةٍ وحثّاً على التفكير والعمل
والأمل.
زياد ماجد
مقال منشور في ملحق القدس العربي