Tuesday, March 31, 2020

الحداثة إذ تضربها جائحةٌ فتصيب مبدأ التوقّع فيها واليقين

قد يكون أبرز ما وسم الحداثة في قرنها المنصرم هو قدرة الصانعين لها والمنخرطين في مجتمعاتها ونُظُمها على توقّع ما سيجري لهم. يسري هذا على الاقتصاد وحساب مستويات نموّه وتقدير عائداته وتوظيفاته ومعدّلات التشغيل والبطالة المقبل عليها سنوياً. يسري على السياسة وتحالفاتها وانتخاباتها التي تأتي المفاجآت فيها كلّ فترة استثناءات مثيرة تعدّل من "رتابة المتوقَّع". ويسري على القوانين وسنّها وصراع النقابات وأصحاب المصالح وكتل الضغط حولها وعليها. ويسري، وهذا الأهمّ ربما، على حياة الناس اليومية، إذ يغدو المُتوقَّع محرّك سلوكهم وضامن خدماتهم ومُحفّز تنقّلاتهم ومواعيدهم وأنشطتهم وسفرهم وثقتهم بمعظم مسارات أمورهم. يُديرون الوقت على أساسه ويقيسون المسافات وفق برامج متوقّعة (ومضمونة) لوسائل النقل الخاص والعام. لا مباغتات في ما يخصّ الخدمات الأساسية التي يحصلون عليها مقابل ما يسدّدونه من مترتّبات وضرائب متوقّعة بدورها. أكثر من ذلك، يختارون ألبستهم وفق نشرات الطقس، ويُقارنون درجات الحرارة القائمة حيث يمكثون بما ستكون عليه في مكامن زياراتهم المقبلة. ولعلّ التذكير بأن نشرات الطقس كانت من عناصر التئام هويّاتهم الوطنية، إذ سمح تكرار ذكر مدنهم إياها يومياً بتكريس خرائط أليفة في أذهانهم وانتماءات ترابية، يُفيد لربط هذه النشرات وموضوعها وخصائص أمكنتها بما سيغدو إدارةً للمتوقَّع في حوليّاتهم وتوزيعاً لوظائف اقتصادية واختصاصات ترفيهية على المدن والمناطق. فهذه صيفية وتلك شتوية، أو هذه للصناعات الثقيلة وتلك للمختبرات الصيدلية أو للتكنولوجيا الرقمية أو للاختصاصات الجامعية.

المتوقَّع هو إذاً شرط للفاعلية ولإدارة الوقت ووظائف المكان ولمراكمة الثروات والتخطيط للمشاريع الكبرى والصغرى، وكلّ خلل فيه يتسبّب به أمرٌ طارئ – غالباً ما يكون بدوره متوقَّعاً أو مصرّحاً عنه، كالإضراب أو هطول الأمطار الغزيرة أو ارتفاع استهلاك الكهرباء بسبب الحرّ وما ينجم عنه من أعطال – لا يغدو كونه حدثاً عابراً في سياق أحداث كثيرة مضبوطة تسير وِفقها عجلات الإنتاج والاستهلاك والترفيه في المجتمعات الحديثة.

@NYT - Rome

الفيروس كمذكّر للحداثة بما سبقها ومنبّه لما قد يليها

وإذا كان المتوقّع هذا قد تعرّض لصدمةٍ كبرى تمثّلت في هجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001 التي شكّلت فاتحة الصدمات المسمّاة "إرهابية"، تمييزاً لها عن الأعمال الحربية الكلاسيكية المُعلنَة التي تُعلّق "المتوقَّع العادي" لفترة ثم تدخل مع الوقت في سياق "التوقّع الاستثنائي" وتترتّب الأمور على أساس تبعاتها وانتظار الخروج منها، فإن الفيروس يكمّل الأمر ويُظهر أن الصدمات يمكن ألّا تأتي من بشرٍ طحنتهم بعض عناصر الحداثة أو ظلّوا لأسباب كثيرة خارجها ثم فاجأوا أسيادَها بعنفهم المشهديّ، بل من الطبيعة نفسها التي خال الأخيرون سيطرةً شبه مطلقة عليها.

فالفيروس، كالإرهاب، يُباغت التوقّع والمتوقّعين، ويستفيد في انتشاره وسفره ممّا توفّر من أسباب اختلاط وتنقّل وترحال بين القارات ليصبح جائحة. وإذا ما استثنينا الحمى الإسبانية التي صرعت خمسين مليوناً من الاميركيين والأوروبيين وأهل مستعمراتهم في الهند والصين وسواهما عقب الحرب العالمية الأولى، والتي بدت كاستمرار لسنوات الحرب ذاتها وآثارها (إذ كان المتسبّبون بها جنوداً أميركيّين أبحروا لدعم الحلفاء في أوروبا، ثم بريطانيّين نقلوها الى أراضي احتلالهم خارج القارة العجوز)، فإن لا فيروسات تحوّلت الى جائحات خارج السيطرة أو الضبط أو القدرة على التوقّع في القرن الأخير بأكمله. فإنفلونزا الطيور وجنون البقر حوصرا سريعاً، والإيدز تيسّرت سبل تقليص الإصابة به (وخصائصه أصلاً مختلفة)، والحروب التي يمكن أن تُطلِقَ أمراضاً وأوبئة تراجعت وانطفأت احتمالاتها في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية ومآسيها. ولم يتَحدَّ المتوقَّع فعلياً منذ عقود طويلة غير "الإرهاب"، قبل أن يصل كورونا من ذاك السوق الصيني حيث مأكل اللحوم الحيوانية يبلغ أقصى احتمالاته.

سافر كورونا إذاً على متن طائرات الحداثة وسفنها وسياحتها ومؤتمراتها، وانتقل من الصين حيث قُمِع الأطبّاء المنبّهون منه بدايةً الى محيطها المباشر، قبل أن يبلغ معاقل الحداثة الغربية، في أوروبا وأميركا الشمالية.
داهم مجتمعات ظنّت أنها دجّنت المخاطر الكبرى وقضت على الأوبئة وأحالتها حكراً على دول فقيرة أو محدودة القدرات على التوقّع والتخطيط واليقينيات العلميِة، وزعزع ثقتها بنفسها وبنُظمها وبانتظام يوميّاتها. فكيف لبلدان مثل إيطاليا وإسبانيا أن تمتلئ مستشفياتها فجأة بالمرضى وتنهار قدراتها الصحيّة وتطلب المساعدة من جيرانها المتردّدين والخائفين على أنفسهم من مصير إيطالي أو إسباني يصيبهم؟ وكيف لبلد مثل فرنسا أن يبدو قليل الحيلة أمام نقصٍ خطير في الكمّامات الطبية وآلات التنفّس الاصطناعي وعدد أسرّة العناية الفائقة؟ وكيف لسيّدة العالم، الولايات المتّحدة، أن تُظهر هشاشةً أمام "اللامتوقّع" فينضمّ في أسبوعين ثلاثة ملايين إنسان الى جموع العاطلين عن العمل فيها، وتتحوّل نيويورك الى مدينة مُقفِرة تنتظر الأسوأ لنقص المعدّات الطبية في مستشفياتها، وهي التي ألهمت "بطولات" أطبّائها وفعالية علاجاتها المفترَضة عشرات البرامج التلفزيونية والأفلام المعروضة في العالم بأسره؟ وكيف لمعاقل الحداثة أن تصبح مراتع لفيروس يسجن مئات الملايين في بيوتهم ويوقف مطاراتهم ويُقفل متاحفهم ومصانعهم ويجعلهم يخزّنون طحيناً ومعجّنات ومحارم ورقية خارج كل "عقلنة" ومنطق "توقّع" وقياس كمّيات معتمدة في الأيام "العادية"؟ كيف لتخطيط دقيق لأنشطة ومهرجانات وندوات ومسابقات رياضية وانتخابات واستحقاقات بورصةٍ أن يتضعضع أو يتأجّل أو يندثر أو يبقى معلّقاً بلا قرارات لانعدام توقّع وضبابية رؤية؟ كيف لسلوكيّات سابقة للمتوقَّع وثقافته أن تعود لتسود وكأن العقلنة في العلاقة بمقتضيات الحياة لم تحصل، أو كأنه جرى التخلّي عنها؟

يُحيل السؤال الأخير الى مسألة التطيّر أو التعامل مع كورونا كمن يتعامل مع الجنّ. ذلك أن الريبة من الآخرين، والتكهّن بحضور الفيروسات في سعالهم أو على أياديهم، والخشية من لمس كلّ شيء وغسل الأيادي الدوري صار يبدو في كثرة من الحالات أقرب الى الوساوِس منه الى المسالك العلمية المُفترض اعتمادها. وهو يطرح أسئلة ستبقى على الأرجح قائمة بعد أفول الجائحة، محورها علاقات الأجساد ببعضها واحتكاكاتها الاجتماعية والرياضية والفنّية والخوف الدائم من تحوّل كل حضور في حيّز عام الى احتمال إصابة بمرض على نحو يتخطّى المتوقّع طبّياً وعلمياً ويقرب من فعل القطيعة مع سلوكيات سابقة شكّلت معلماً من معالم الحداثة حيث الأجساد مُباحةٌ للِقاء وعرضة للانخراط في اكتظاظ يفرضه نقل أو عمل أو رقص أو تظاهر، لن يكون الرجوع إليها سهلاً وبلا كلفة أو مخاطرة فعلية أو متوهّمة. وفي هذه المخاطر تحديداً يكمن نقيض التوقّع المضمون الذي لطالما ساد، ويُفتح باب التطيّر ويُطرح الانعزال. ولولا هواتف وأجهزة تلفزة وخدمات أفلام وكمبيوترات وشبكات افتراضية مُقبلة على المزيد من التطوّر، ولولا عجلات اقتصادية ستعود للدوران وتموّل أبحاثاً مخبرية مضادة للفيروس، لأمكن القول إن كورونا سيقيم لفترة طويلة في العالم وسيذرّر مجتمعات ويُبعد الناس عن بعضها مسافاتٍ تتخطّى السنتمترات المئة والخمسين المقترحة علمياً لتجنّب العدوى...

التهم بشريّ في آخر العام 2019 حيواناً وانتزع من أحشائه فيروساً فتّاكاً نقله الى عائلته وجيرانه وزملائه. سافر بعضهم ونقل الفيروس معه فتلفّقته أيادٍ وأنوفٌ وأفواه كثيرة. انتشر في الأماكن المعتادة تلاقياً واسعاً بين المرتحلين والممتلكين وسائل الارتحال المنظمّة والمقوننة. وقبل أن ينتقل منهم الى أولئك الأقل حظاً في الحياة في الأيام "الحديثة" العادية فيعصف بحيواتهم، ها هو يُعمل تعديلاً في عادات وتقاليد وتوقّعات ويذكّر الناس، مصابين وغير مصابين، بهشاشةٍ مستمرّة أمام الطبيعة التي عمل بعضهم على تطويعها ونهب ما يفيده، وأحياناً ما لا يُفيده، من عناصرها. 
زياد ماجد
مقال منشور في موقع درج