إكتشف عشرات ألوف السوريين وأصدقائهم أواخر الأسبوع الماضي أن الفايسبوك
والتويتر والسكايب والبريد الالكتروني وسائر ما يوفّره الانترنت من سبل الاتصال
الاجتماعي صارت جزءاً حميماً وضرورياً في يوميّاتهم، وأن انقطاعها ليومين أو ثلاثة
يعني انقطاعهم عن بعضهم وعن العالم، وانحباس أنفاسهم وكأن سجناً أوصد أبوابه على
مَن هم في الداخل السوري، أو نفياً مضاعفاً أبعَدَ من هم في الخارج ويَتّمهم.
والأمر مفهومٌ في ظلّ تحوّل الإنترنت الى وسيلة "زيارات" دورية لسوريّي
الخارج الى الداخل، والى استراحات أو فسحات تعبير لسوريّي الداخل تنقل أخبارهم الى
الخارج. لكنّه مستجدّ في كونه رابطاً غير افتراضي، مقروناً بشحنات عواطف وأشواق
حقيقية لأناس حقيقيين يتشاركون جغرافيا واحدة أو خاصية واحدة هي بدورها حقيقية. فبدا
مِن الخارج غياب أهل الداخل مرعباً، وكأنهم في موت مؤقّت. في ما بدا من الداخل
غياب أهل الخارج تشديداً لحالة الحصار وخنقاً لإمكانيات تخفيفها أو تهريب صور
وكلمات وشروحات تفكّك بعض حواجزها.
على أن انقطاع الانترنت ثم عودته وما رافق العودة من احتفال وتمرين على
الفرح وعلى ما قد يشبه يوم الرجوع الى مكان تغيّر أو تحرّر، تحملنا أيضاً الى
استنتاجين مرتبطين بما أحدثه البُعد التواصلي الرقمي من ثورة في حياتنا أوّلاً،
وبما أحدثته الثورة السورية من تبدّل في ما كان قائماً من خصائص هذا البُعد
ثانياً.
في الاستنتاج الأول، يمكن القول إن العلاقة الانسانية بالعالم الافتراضي
صارت عظيمة التعقيد، تتخطّى الشكل الوظيفي والفائدة المعلوماتية والقدرة على
التواصل الإخباري أو الترفيهي الى ما يُشبه الاستثمار العاطفي الذي تصعب الحياة
الحقيقية وانفعالاتها من دونه. ولعلّ الفايسبوك هو أكثر ما دفع نحو هذا الاستثمار
وعمّقه، وأمّن له لمسات يدمن من جرّبها عليها. فمن "اللايك" الى
"الشير" ومن العام الى الخاص، ومن الثنائيات الى المنتديات والمجموعات،
ثمة روابط تنشأ وتتصاعد محوّلة الافتراض الى حقل تجارب وتمكين لأفراد من التعبير
المباشر وابتكار أشكال تجريدية لهذا التعبير لا تُتيح اللقاءات المباشرة بالضرورة ممارستها.
فوَضع صورة أو أغنية أو عبارة تشي بحال واضعها يلخّص أحياناً كمّاً من الأمور يستحيل
في حديث "واقعي" التعبير عنها أو إشراك الآخرين بها. فلن يغنّي أحد في
مقهى مثلاً الأغنية التي وضعها على صفحته لحظة دخول صحبه، ولن يشهر صورة ويرميها
على الطاولة لإحداث وقع شبيه بما يحدثه وضعها إياها على الفايسبوك. فالفردية
الفايسبوكية تتحرّر من قيود السلوك الواقعي، والتجريد بما هو أداة تعبير مكثّف في
مخاطبة الآخرين تجد في الفضاء الافتراضي قدرة مضاعفة على التحوّل لغةً حقيقية. وفي
لقاء الفردية بالتجريد وتحوّلهما عبر التواصل الى عرض بتصرّف الجماعة ما يخلق
روابط وعلاقات تتطلّب جميعها توصيفات جديدة.
في الاستنتاج الثاني، أن سوريا في ثورتها العظيمة صارت في ذاتها مرحلة
جديدة في مراحل تأريخ الانترنت. فالتأريخ هذا مرّ بمرحلتين أساسيّتين: أولاً، مرحلة
الاتصال بالشبكة العنكبوتية بواسطة كمبيوتر وخط سلكي يجعل المرء جالساً على كرسي
في غرفة لا قدرة له على الحركة أو على التحرّر من وضعيته الجسدية ومن شكل المكان
الذي يطلّ منه الى العالم؛ وثانياً، مرحلة القدرة على التحرّك خلال الاتصال وإجرائه
من أي مكان وبلا أسلاك أو عوائق مادية بواسطة الأجهزة المحمولة والتلفونات الذكية
وغير ذلك من تكنولوجيا جعلت الحركة عنصراً هائل الدينامية في علاقته بقدرة البث
المباشر وعدم الانقطاع عن الانترنت خلال السفر أو التنقّل أو الانتقال بين الغرف أو
الشوارع، وكأن الحاجز المكاني (أو حتى المناخي) فعلاً تلاشى، أو كأن الافتراض صار
في ذاته مكاناً مشتركاً إذ يمكن أن يتلاقى الناس مادياً مُبقين في نفس الوقت على
"صلة" بشبكاته ومستمرّين في تواصلهم عبرها.
وما أضافته سوريا في هذا التأريخ السريع هو دفعها المرحلة الثانية، مرحلة
الحركة، الى تخطّي نفسها نحو شيء جديد. شيء يشبه الثورة في قدرتها على إحداث قدر
فائض من المشاعر المتناقضة في آن واحد يجمع "اللايك" على صور مفجعة كصور
الشهداء، بالدمعة بعد قراءة قصة، بالضحك بعد تعليق وبالدهشة بعد مقال أو فكرة. وفي
كلّ ذلك حركة داخل حركة لا تتوقّف، وافتراض من قلب الواقع أو واقع من قلب
الافتراض، لا فارق بالضرورة في طبيعة المشاعر التي يولّدها وتناقضاتها بل في أشكال
تعبير المتلقّي عنها إن كان هو نفسه في حركة أو مقهى أو في بيته في ساعة متأخّرة
من الليل...
سبق لكاتب هذه السطور أن كتب في
افتتاحية من العام الماضي أن إنترنت سوريا وفايسبوكها من لحم ودم. ويمكن اليوم،
بعد تجربة الانقطاع ثم تجديد اللقاء مع السوريين وبينهم، تأكيد ذلك والقول أيضاً
إن إنترنت سوريا وفايسبوكها كثورتها يعيدان تعريف أكثر علاقاتنا بأنفسنا
وبالآخرين...
زياد ماجد