كلّ ما طال أمد أي صراع سياسي وتوسّعت رقع العنف فيه، كلّ ما تفاقمت الظواهر الإجرامية ووجدت الأمراض المجتمعية الكامنة والمقموعة سبيلها الى العلن والسفور. وإذا صحّ ذلك في المجتمعات التي لم تعش الحكم الاستبدادي والشمولي، فهو يصحّ أكثر في تلك التي أعمل ويُعمل فيها الاستبداد فتكاً.
بهذا المعنى، ليس الوقت عدوّاً للأنظمة الاستبدادية وحدها حين تصارع وتفشل في قمع الثورات ضدّها فتفقد سلطتها الرمزية وسطوتها على المجتمع خارج ممارسة العنف السافر. لكنه أيضاً عدوّ للثورات إياها إذ يُتيح خلال استمرارها لفترة طويلة خروج كل ما في المجتمعات من احتقانات متراكمة وتفجيرها بلا ضوابط أو قنوات "تصريف" كان للتغيير الهادئ أو المحدودِ العنف أن يتيح نشوؤها.
ولعلّ مراقب الأوضاع في سوريا يدرك اليوم هذه الحقيقة. فمجتمع مُنتهك ومُحتلّ منذ ما يزيد على الأربعين عاماً من نظام استبدادي ذي قواعد عائلية وذي عصبية أهلية ومؤسسات أمنية ومخابراتية ومافياوية شديدة الاتّساع والفساد والبطش، ينتج في ما يُنتجه، ظواهر اعتلال يمكن للصدام العنيف وللحظة الخروج من النظام المستبد أن يطلقا شياطينها ويحرّراها من القيود التي رافقت ولادتها وأجّجت حدّتها.
والحقيقة الجزئية هذه، على بشاعة أوجهها، لا يمكن أن تحجب الحقيقة الأوسع. فلا هي تختصر المشهد الثوري، ولا هي تقلّل من عظمة الثورة وبسالتها في مواجهة آلة قتل متوحّشة ومحميّة من دول نافذة إقليمياً ودولياً. ولا هي تقلّص حجمَ الإدهاش الذي تولدّه إبداعات المواطنين السوريين وشجاعتهم وإصرارهم وروح السخرية التي ينكّلون بواسطتها بالطاغية وعسفه ووضاعة أنصاره. كما أنها لا تولّد سويّة في المسؤوليات، إذ هي في أكثر جوانبها ربيبة ترهيب النظام وعنفه وتحريضه الطائفي ونشره الكراهية التي تخطّت منذ آذار 2011 كل ما يمكن للمرء تخيّله.
مع ذلك، لا ينبغي الاكتفاء تجاهها بالتبرير أو الشرح أو التحليل. فواحدة من مهام الحريصين على الثورة اليوم، وهي تدخل شهرها الثامن عشر، تقوم على التصدّي خطاباً وسلوكاً وبرامج سياسية للممارسات المَرَضية التي تزايدت في الآونة الأخيرة بعد اتّساع نطاق القتال ومعه الجغرافيا المحرَّرة في سوريا. وهذا يفترض مواقف حاسمة ليس من المثقفين والناشطين المدنيين والقانونيين والصحافيين المنخرطين في الثورة فحسب، وكثر منهم لم يقصّروا في التعبير عن ذلك، بل أيضاً وبشكل خاص، من قِبل القيادات العسكرية الميدانية في الجيش الحر أو قادة الكتائب المستظلة به، ومن قِبل المجلس الوطني والتنظيمات والمؤسسات السياسية الإسلامية والعلمانية على اختلافها... وهذا حقّ للثورة السورية عليهم، وهي الثورة التي لم يسبق لمثيلاتها في التاريخ أن واجهت عنفاً ضارياً كالذي تواجهه.
فإذا كانت بعض ردود الأفعال التي يتشبّه أصحابها بما تعرّضوا ويتعرّض ذووهم له من أهوال صعبةَ التجنّب كلّياً، فالمهمّ أن يبقى شأنها محدوداً وأن تتمّ محاصرته كي لا يستشري، فتنافس طقوسُه المشهدية - وما فيها من "إثارة" وتحفيز غرائز ومغريات للإعلام - نبلَ الثورة ونبلاءها المنتشرين على مدى الخريطة السورية (ومنافيها) المرسومة جهداً وعرقاً ودماً وورود.
زياد ماجد