لم يكن الأداء ال14 آذاري منذ نجاح انتفاضة الاستقلال في إنهاء هيمنة النظام السوري وجيشه على لبنان في نيسان 2005، مدعاةً دائمةً للتفاخر. فالتضحيات والصمود في وجه الاغتيالات والعبوات كما في وجه حملات الترهيب والتهديد والتخوين على أهمّيتها، لم تحجب الأخطاء الكثيرة التي ارتُكبت ولا الأوهام والأولويات المتعثّرة التي بُنيت.
مع هذا، وعند كل مفترق واستحقاق، لم يكن لمعنيّ باستقرارٍ وحرّيات وحياةٍ مدنية في لبنان، ولمتمسّكٍ باستقلال ولو بحدوده الدنيا في بلد يفتقد أبناؤه الى الإجماعات الوطنية، إلاّ أن يميل الى الخط العام ل14 آذار، ليس لمن فيها وما لها، بل لما تمثّله من مناخ عام متنوّع ومتعدّد، في وجه معسكر قوامه آلة عسكرية وتنظيمية حديدية بُنِي حولها حزب سياسي ومؤسسات اجتماعية وعقائدية. ولا يغيّر في ذلك، كون هذا المعسكر يملك حيثية شعبية كبيرة، أو أنّ فيه قوى متحالفة مختلفة في تكوينها وثقافتها عن "أخيها الأكبر"...
وقد كتبتُ مِن عامين في هذه الزاوية رسالة "الى صديق متردّد"، أشرت فيها الى تفضيل 14 آذار لما تحمله من منطق تعدّدي منفتح على معظم دول العالم غرباً وشرقاً، بمعزل عن تكوينها الطائفي وبمعزل عن الثقافة الزبائنية السائدة فيها، كما في لبنان منذ نشأة نظامه وتدرّج نخبه السياسية. ذلك أن الخيار الآخر المقابل لها، هو خيار يضيف الى الطوائفية الزبائنية إياها (والتي لا يختلف فيها بشيء رغم كل ادّعاءاته) هوية دينية وإيديولوجية لا يجاريه فيها أحد من الأطراف في لبنان، معطوفةً على الحالة الحربية المسلّحة التي ينفرد بها، وعلى قدرته الاستثنائية على جعل لبنان حبيس علاقات خارجية بدولتين، أو بالأحرى بنظامين، لا ثالث لهما...
واليوم، تماماً كما مِن عامين، أعيد التذكير بالفارق بين المعسكرين كي لا تنحصر الأمور في مفاضلات بين الأشخاص وبين الأحقّية قي تمثيل المذاهب، على مشروعيّة هذين الاعتبارين في بلد قوامه - الى أن يقضي الله أمراً - التوافقية الطائفية...
ذلك أن ما يجري راهناً هو بالضبط ما يجسّد الفارق بين الطرفين. طرف فاز بانتخابات نيابية ويملك أكثرية في المجلس تتيح له التكليف الحكومي، وطرف آخر خسر الانتخابات، لكنه "عوّض" عبر السلاح ما يتيح له فرض خياراته عبر تخويف خصومه وترهيبهم لسحب بعضهم من الأكثرية (أو حتى من الوسطية)، خاصة إن كانوا يخشون الفتن ويجانبون الاقتتال.
عليه، يفوز حملة السلاح بعد تلويحهم بنيرانه، وتصبح التوافقية التي يريدونها حول أجنداتهم مكمن تصويب البنادق إن رفضها خصومهم، فينجحون بالتالي في قهر قسم كبير من اللبنانيين واللبنانيات دافعين بعضهم الى التطرّف وبعضهم الآخر الى الإحباط من اللعبة الديمقراطية، والأمران خطِران على الجمهورية وعلى السلم الأهلي في ظل التوتّر المذهبي والهشاشة الوطنية.
على أن فائض القوة (المسلّح) خدّاع. ففجوره وغروره ينسيانه أن أطرافاً عديدة في لبنان حاولت في الماضي القريب ما يحاوله اليوم لاستبعاد خصومها أو للتنكيل بهم، وسقطت. وينسيانه أيضاً أن الفتن التي لطالما حذّر منها واتّهم إسرائيل وعملاءها بالتحضير لها، إنما صارت جالسة بين ثنايا غروره ومتأهّبة في صلب جهله بتكوين وطنه وديناميّات مجتمعه. مجتمع رغم الكثير من المثالب، ما زال مطحنةً للاستبداد ولتجاربه...
زياد ماجد