كان قد مضى على حضوري أو مشاهدتي لآخر مباراة في الدوري اللبناني لكرة القدم 6 سنوات حين تسمّرت بعد ظهر السبت الماضي أمام شاشة تلفزيون "المستقبل" لمشاهدة "دربي" النجمة والأنصار. شوق ما لذكريات علاقة ببيروت ترفيهية، أو طبيعية، دفعني للبقاء على مدى تسعين دقيقة أمام المباراة. علاقة كانت فيها أيام الآحاد مدرّجاتٌ تتنفّس بالناس، وكان فيها كعك بحلوّم مشوي على الفحم، وأصوات باعة جوّالين، وصخب ملوّن وفرح وتعليقات طريفة وانفلات عفوي لكلمات تهجو حَكماً أو لاعباً أو مدرّباً بعد تبديل يبدو غير موفّق، وانفعالات أخرى عادية تقرّب اللبنانيين الوافدين الى الملعب الى غيرهم من هواة كرة القدم حول العالم.
لكن خيبتي كانت بحجم الشوق. ذلك أن شعوراً آخر بالكامل وتذكّراً نقيضاً تماماً هما ما تملّكاني من لحظة انطلاق المباراة حتى لحظة انطفائها. شعور وتذكّر لا علاقة لهما بمستوى المباراة وبأداء اللاعبين ومعظمهم جدد لا أعرفهم. وشعور وتذكر لا يمتّان بصلة الى نتيجة اللقاء ولا حتى الى لون الملعب وأرضيته ومنظر الكرة وهي ترتفع عالياً عند كل تشتيت فتغيب لهنيهات عن عدسة الكاميرا.
ذلك أن صورة المباراة جسّدت على نحو لا يقبل الشك حجم الاهتراء المسيطر على الوضع اللبناني. إهتراء لا يسمح بملء قسم ولو صغير من المدّرجات خشية استعار السباب الطائفي والهجاء المذهبي الذي يبدأ "بالحريري والطريق الجديدة" أو"بنصر الله والضاحية كلّا" ليصل على الأرجح الى عائشة ومعاوية والحسين بن علي وبينهم ميليس وبلمار (ويمكن أن يكون في حالات لبنانية أخرى على صلة بالجنرال أو بالحكيم أو بسواهما). ويمكن كذلك أن يعرّج على السعودية وإيران وسوريا وأميركا من دون أن ينسى التلويح بتواريخ مجيدة ورفع القبضات أو الأصابع إكراماً لها..
والمباراة، كما سائر المباريات بالطبع، أكّدت أننا دخلنا منذ سنوات مرحلة من الحدّة في الفرز والاستقطاب الأهليّين لا أذكر أنه سبق لنا وعشنا ما يشبهها، حتى في أيام الحرب. وكاتب هذه السطور حضر عشرات المباريات في الثمانينات، لم يكن التموضع السياسي آنذاك يجد الى جماهيرها سبيلاً. حتى أن بعض المباريات العابرة لخطوط التماس، كانت تهدف (ولو فولكلوراً) لإظهار وحدة وطنية "شعبية" ما، يظلّلها توزيع أعلام لبنانية ثم تُعطف على نشيدها الوطني أناشيد المحبة والهيام المتبادل و"الراجع يتعمّر" حتى ولو اخترقته شتيمة أو نميمة بحسب تطوّر مجريات المباراة سرعان ما يزجرها مبادر تأخذه "الحميّة الوطنية" فيصرخ ويُصفّق له المُعجبون: "لاه يا شباب، كلنا أخوة!"
وحتى في التسعينات، كنت أردّ على المحيلين مباريات النجمة والأنصار الى مبارزات شيعية سنية بأن في قولهم إسقاطاً على واقع لا علاقة له بسوسيولوجيا "الجماهير الكروية" وولاءاتها ولا بعصبية النوادي العريقة، مذكّراً إياهم بكون الجمهور النجماوي بأكثريته الشيعية لا يقلّ عداء لناديي البرج والساحل وجماهيرهما أو لنادي التضامن صور، ثم لنادي العهد ومشجّعيه (المحسوبين على حزب الله) عن عدائه لغريمه التقليدي الأنصار، وأن ولاءه للنجمة يبدو في لحظات، رغم شيعيّة تزيّن بعض زنود متحمّسيه بسيف ذي الفقار حامياً نجمتهم العزيزة، أقوى من ولاءاتهم السياسية أو المناطقية "التقليدية".
على أن كل هذا تبخّر. صار السياسيون ورجال الدين يُستحضرون فيبدون حتى في المباريات الرياضية نجوماً وتخالهم مهاجمين على أهبّة التسجيل. صار جمهور الفريق الواحد يتبادل أفراده الشتائم وفق انتماءاتهم المذهبية فتغلب الأخيرة على الفرز الكروي في الملعب وتعيد "خلط المدرّجات". وصار الهروب من الأمر دافعاً نحو اللعب أمام مدرّجات خالية. مدرّجات باهتة عليلة تُسمع فيها أصوات الإداريين المسموح لهم بالدخول إن تسامروا أو تهاتفوا... وفي هذا، بمعزل عمّا يجري على أرض الملعب، ما لا علاقة له بكرة القدم وثقافتها. بتماهي جماهيرها مع فرقها التي تختارها لأسباب عديدة وتلتصق بها وتتغنّى بولائها ووفائها لها في الأفراح والأتراح (وخاصة في الأتراح)، من دون أن يعني الأمر أن لا أسباب سياسية أو مناطقية أو دينية أو اجتماعية دافعة للاختيار، لكن من دون أن يؤدّي الأمر كذلك الى الحاجة لقوات مجوقلة تحفظ الأمن في الملعب كي لا تنطلق الحرب منه أو من أكشاك بيع المرطّبات على مداخله...
نهار السبت الفائت، عكس منظر المباراة الأبرز في لبنان منظر البلد نفسه: كئيب، ثقيل، متشنّج، يخشى المرء من "بنالتي" تطيح به.
نهار السبت الفائت لم تكن لا النجمة ولا الأنصار "حلوة برجالها " كما كان يحلو للمغالين أن يغنّوا. ولم يكن "دربي" بيروت (ولبنان) سوى شبح يتحرك بخفر بعيداً عن الأضواء وعن الحياة، وبعيداً عن الحماس الذي صار على ما يبدو سريع التحوّل الى غضب وهتافات كراهية وتضارب فتوّات...
زياد ماجد