قد لا يبدو بديهياً ولا مقبولاً عند كثر من اللبنانيين القول إن "صيغة" وطنهم السياسية الضامنة حياته المؤسساتية منذ استقلاله الأول عام 1943 قد تهالكت وبات يصعب الفرار من مراجعتها.
ذلك أن العطب السياسي الراهن، الناجم عن السجال حول المحكمة الدولية وشهود الزور والويكيليكس وغيرها يغطّي على هذه المعضلة ويُظهر ما يجري وكأنه حصراً انعكاس صراعات إقليمية ومحاولات تحكّم خارجي بأوراق تفاوضية، تسووية أو تصعيدية، على الساحة اللبنانية.
وبهذا المعنى، يغدو (بالنسبة الى اللبنانيين هؤلاء) من غير المفيد البحث اليوم في "صيغة" جديدة قبل حماية "الدولة" ورفض المقايضة بين بعض العدالة وبعض الاستقرار.
على أن جوانب "اللا فائدة" في ما ذكر لا تنفي كون الصورة أعقد من مشهديّتها الراهنة. فما يصيبنا من تعطيل للحياة السياسية وضرب لفكرة الدولة في حدّها الأدنى من التكوّن المؤسساتي والقانوني هو في جانب آخر منه (أي في الجانب المكمّل للاستباحة الإقليمية لنا) نتاج دينامية داخلية تستند الى معطيين آخذين في التفاقم منذ خمسينيات القرن الماضي:
الأول، خلاف بين اللبنانيين أنفسهم على موقع لبنان في المنطقة،
والثاني، خلاف بينهم على أحجام الحصص الطائفية داخل النظام ومؤسساته.
والمعطيان هذان إذ يتكاملان تتفجّر أوضاعنا.
حصل ذلك في العام 1958 حين نشب خلاف حاد حول الموقف الرسمي اللبناني من أحلاف المنطقة، فأفضى الى نزاع طافت على سطحه شعارات المشاركة.
وحصل ذلك تكراراً بين نهاية الستينات ومنتصف السبعينات عشية اندلاع الحرب حين اختلط الخلاف حول طبيعة التعاطي مع القضية الفلسطينية بذلك الناشب حول سبل إصلاح النظام السياسي والاقتصادي اللبناني.
ثم شهدنا الأمر تكراراً بعيد اتفاق الطائف والتطبيق "المشوّه" له، حين استفحل الخلاف حول التحكّم السوري بسياسة لبنان الخارجية المترافق مع تهميشها وقمعها داخلياً لفئات واسعة من اللبنانيين.
وها نحن نعيش منذ العام 2005 حالتي الخلاف "الخارجية والداخلية"، وبشراسة أعلى هذه المرة، نتيجة الاصطفاف الشعبي الحاد، والاحتقان المذهبي غير المسبوق، ونتيجة وجود طرف مسلّح، ذي مشروعية شعبية وطائفية، مكتمل العدّة في استقلاله الذاتي داخلياً وارتباطه العضوي خارجياً.
وفي مجمل ما ورد، دليل على عمق التداخل بين الداخل والخارج وعلى عدم قدرة "الصيغة اللبنانية" على إيجاد الحلول للأزمات الكيانية داخل المؤسسات والأطر القانونية التي يُفترض أن اللبنانيين مجمعون – ولو نظرياً - على تبنّيها... فكيف وأن محكمة دولية في جريمة اغتيال رفيق الحريري ستضيف الى كل ذلك قراراً ظنياً "معقّد" التبعات؟
هل المطلوب الاستسلام لواقعنا الكئيب هذا؟
طبعاً لا. فالمطلوب بعد محاولة التشخيص هو تحديد لبعض العناوين الممكن التعامل مع الواقع من خلالها.
والعناوين اليوم لا تحتمل بهتاناً تجاه التمسّك بالسلم ورفض العنف ونبذ التحريض لغة ومسلكاً. كما أنها لا تحتمل تراجعاً عن الحق بالعدالة وعن البحث في نفس الوقت عن سبل محاصرة كل احتمال لتداعيات قراراتها "أهليّاً". فليس صحيحاً أن مؤدّى القرار الظني حرب أهلية. وليست مساقات الحروب إن اندلعت أساساً بالبساطة التي يخالها أحد، وهذا يترك هوامش للمبادرات وللبحث عن وسائط استيعاب للضغوط.
على أن ما تفترضه العناوين أيضاً، وبالتوازي، حوارات وطنية للاتفاق على مسلك لبنان في المنطقة وأشكال انخراطه في دينامياتها، ومن ثم العمل على بلورة قوانين جديدة تنبثق منها المؤسسات الدستورية وبها تُحصّن، فتوفّر فضّاً للنزاعات داخلها وتساهم على المدى البعيد في قضم مساحات الرثاثة الطائفية والزبائنية المتوسّعة.
فإمّا ذلك، وهو حكماً صعب ودونه انقسامات راهنة وطبقة سياسية، وإما استمرار المراوحة طويلاً في انتظار تسوية خارجية أو انفجار، هما في الحالين أصعب على الناس بانقساماتهم وربما على الطبقة السياسية إياها...
زياد ماجد