قد يكون أخطر ما في أحداث برج أبي حيدر والبسطة والنويري، إن كانت "فردية بين أبناء الخندق الواحد" على ما تقول الأسطوانة السمجة أو "أهلية" على ما هو رائج في الشارع المحتقن أو مخابراتية لبعث رسائل حول معاني الفتن واحتمالاتها والحاجة تالياً الى طرف يلجمها ويردع انفلاتها، قد يكون أخطر ما فيها، هو السعي الى لملمتها وإنهاء ذيولها من خلال لجان تنسيق ميداني وأمني تبدو الدولة فيها بأجهزتها على قدم المساواة مع جهازين حزبيّين – مذهبيين.
والأمر هذا يتكرّر منذ فترة ولو مع أطراف يختلف بعضها. وسمعنا به بعد أحداث في عائشة بكار، ثم في نواحي أخرى في غربي العاصمة، ومؤخّراً بعد الاشتباكات الأخيرة.
الخطورة تكمن في أن التنسيق يشرعن أولاً حق أحزاب بامتلاك السلاح وتكوين الأجهزة الأمنية والقتالية، ويبني ثانياً علاقة شراكة بين قوى الدولة النظامية وقوى ميليشياوية، فيُدعى مسؤولون من الأخيرة الى اجتماعات بوصفهم ذوي صلاحيات "أمنية" تتيح لهم المشاركة في إدارة الأمن الوطني وضبط الشارع.
بهذا المعنى، يُمعن ما جرى في إضعاف هيبة الدولة وواجبها في احتكار السلطة وضمان أمن الناس ورعاية عمرانهم وانتظام شؤونهم.
وإن كانت التبريرات لإشراك المعنيين في تهدئة الخواطر والتحاور لإيجاد الحلول في بلد تتفاقم فيه المشاكل تتذرّع بالأمر الواقع وبضرورة معالجة الأمور بالتي هي أحسن، فإن شكل التنسيق مع شلل تمارس العنف المسلّح ضد سكان آمنين لا يمكن تبريره.
كان يمكن للمواطنين أن يقولوا إن المطلوب عوض دعوة أجهزة الدولة للطرفين المتحاربين الى اجتماع أمني أن تجري دعوتهم من قبل الأجهزة القضائية المختصة وأن يُدّعى عليهم ويجري توقيفهم لتدميرهم أملاكاً عامة وخاصة ولزهقهم أرواحاً وتسبّبهم بأضرار جسدية ونفسية طالت مئات المواطنين
وكان يمكن أيضاً أن يُطالب الناس المسؤولين السياسيين بالاستقالة وبالاعتذار عن عجزهم المتواصل في مواجهة الفوضى والتفلّت الإجرامي ومحاسبة المرتكبين.
لكننا نعرف أننا في بلد لا قدرة للدولة فيه على القيام بدورها، ولا يملك مسؤولوها أزاء بعض القوى والأجهزة سوى المناشدة والتمنّي. ونعرف أيضاً أننا منذ زمن في حضرة سلطات دستورية أضعف من الجماعات المتآخية والمتنابذة المقيمة في ظلّها الافتراضي.
لكن ما لا نعرفه، وما لا نريده أن يصبح واقعاً مكرّساً وبديهياً، هو أن تقوم الدولة نفسها بأداء أدوار تزيد من ضعفها، وتعمّق من أزماتها، وتسمح لمن لم يحاول بعدُ أن يخرج عليها أن يقلّد بدوره الخارجين، فنصبح عندها أمام واقع يومي تديره فعلياً ثلاثية "الدولة والمقاومة والشعب" العجائبية في قواميس القانون والعلوم السياسية. ويصبح اللبنانيون بمجاميعهم مشاريع سلطات، إن لم تكن "مقاوِمة"، فلا صعوبة في أن تكون "شعبية"...
زياد ماجد