يشهد لبنان منذ انتخاب رئيس جمهورية جديد هو قائد الجيش السابق جوزف عون، ثم تكليف رئيس حكومة إصلاحي من خارج الطبقة السياسية هو الحقوقي نواف سلام، تجاذبات حادة بين التوّاقين الى انطلاقةٍ جديدة للدولة اللبنانية وإعادة بناءٍ لمؤسساتها من ناحية، وبين الباحثين عن استمرارية النظام السياسي نفسه مع تعديلات في موازين القوى داخله وسعي للاستفادة من دعم مالي إقليمي ودولي في انتظار الانتخابات النيابية المقبلة من ناحية ثانية.
وتخترق تيارات سياسية وطائفية الاصطفاف هذا في ضفّتيه، فتتقاطع مواقفها ومصالحها عن قناعة أو عن انتهازية حيناً، ثم تتصادم أو تتباين حيناً آخر، مع استثناء وحيد، يكاد يكون استعصاء، هو استثناء "الثنائي الشيعي" كما يُسمى، أي تحالف حزب الله وحركة أمل.
المسألة الشيعية
يطرح هذا الاستعصاء في شكله المتجدّد اليوم سؤالين على الأقل، بمعزل عمّا سيؤول إليه تشكيل الحكومة التي يحاول نواف سلام إيجاد أفضل توازن ممكن فيها بين مشروعه الإصلاحي وبين التقاليد والأعراف الطائفية التي فرضتها ممارسات و"قوانين" على مدى عقود طويلة.
السؤال الأول هو سؤال الاستقطاب وتفرّد "الثنائي" المذكور منذ سنوات بتمثيل الشيعة في البرلمان عبر انتخابات لم تغيّر القوانين المعتمدة كثيراً من نتائجها في ما يخصّ هذا التمثيل بالذات. مردّ ذلك التطوّرات والتبدّلات داخل الطائفة الشيعية ذاتها، ونفوذ حزب الله بمؤسساته وموازناته ووسائل إعلامه وخدماته الاجتماعية والصحية والسردية التي بناها في ما يخصّ قتاله إسرائيل وذوده عن شيعة لبنان، إضافة طبعاً الى جيشه المسلّح وأعداد المقاتلين فيه. ومردّ ذلك أيضاً سيطرة حركة أمل على معظم "المواقع" والمناصب في إدارات الدولة ووزاراتها التي خُصّصت للشيعة أو تعاقب عليها مسؤولون شيعة منذ نهاية الحرب وحتى الآن. ومردّ ذلك أخيراً نظام طائفي لا تقدّم قوى باقي الطوائف فيه بدائل موثوقة أو ذات مصداقية، ولا يَجد فيها أكثر الشيعة غير الموالين للثنائي خيارات، في ما خلا بعض المسترزقين منها، المساهمين غالباً في تقوية نفوذ الثنائي ومشروعيّته في أعين مريديه.
أما السؤال الثاني، فهو أشدّ تعقيداً وتركيباً. ذلك أن النظام الطائفي اللبناني إذ قام العام 1943 على أساس دستور العام 1926 وعلى أساس "الميثاق الوطني"، قام وفقاً لشراكة مارونية سنية، ظلّ الطرف الماروني فيها صاحب غلبة في الصلاحيات والممارسات الى أن عدّل "اتفاق الطائف" العام 1989 الأمر وجعله أكثر توازناً، ليكرّس رفيق الحريري التعديل وينتزع الغلبة لصالحه في مرحلة إعادة إعمار تحت هيمنة سورية قرّرت بعد توريث الأسد الأب الحكمَ لابنه إضعاف الحريري وصولاً الى قتله.
وبدا التمثيل السياسي الشيعي قبل الطائف محصوراً في إدارة جلسات نيابية والسعي للحصول على مكاسب خدماتية هنا وهناك. ثم صار بعد "الطائف" مستنداً الى قدرة تعطيل للجلسات النيابية إياها (مع ولاية أطول لرئيس المجلس)، بما يعرقل مشاريع القوانين الحكومية والتعيينات ويفرض مقايضات اشتُهر نظام "الترويكا" بالتعامل معها، متيحاً الفرصة للنظام السوري بلعب دور الحكم على الدوام وتدعيم هيمنته الأمنية بهيمنة سياسية. ولم يكن الثنائي متماسك التحالف والأداء وقتها. فالتمثيل الشيعي في الترويكا كان حكراً على رئيس حركة أمل. أما حزب الله فكان سلاحه ضمانته من خارج المؤسسات وقتاله الاحتلال الإسرائيلي وظيفته ومصدر شعبيته الى أن تحرّر الجنوب، ثم اندلعت المواجهة الداخلية مع النظام السوري واغتيل الحريري وخرج الأسد الابن من لبنان. عندها، برز حزب الله بسلاحه وقوته الشعبية كبديل عن الأسدية، ولعب لفترة دوراً يشبه دور الأسد الأب (وليس الإبن) تجاه الداخل، إن لجهة البحث عن وصاية عامة أو لجهة "الاكتفاء" بالتحكّم بالأمن والسياسة الخارجية. وبات للثنائي الشيعي دور واضح، قوامه تقاسم الحصص في مؤسسات الدولة وملكية السلاح والبحث عن مشاركة مؤثّرة في صيغة الحكم، ترجمتها مطالبته بحق الحصول على الثلث الضامن في السلطة التنفيذية، المتحوّل تقنياً الى الثلث المعطّل، والمعطوف على تمنّع رئيس المجلس عن الدعوة لجلسات برلمانية بحجّة الميثاقية في حال محاولة خصومه تخطّيه أو رفض مشروطيّاته السياسية.
الاستئثار في السياق اللبناني وجغرافيا شيعته
على أن هيمنة الثنائي على التمثيل الشيعي لم تكن حالة الهيمنة أو الاستئثار اليتيمة في السياق الطوائفي اللبناني. بل هي أتت متأخّرة عن غيرها، ولو أن أمد حياتها يبدو أطول بكثير من أمد حياة كلٍّ من سابقاتها. فهي أتت بعد "توحيد البندقية المسيحية" خلال الحرب، وِفق شعار بشير الجميل، وبعد توحّد الدروز خلف القيادة الجنبلاطية خلال معارك الجبل، وبعد الاصطفاف السني الواسع خلف الظاهرة الحريرية بعد الحرب. بهذا المعنى، أتت الأحادية عبر الثنائي الشيعي بعد أن شهد البلد في مراحل سابقة ديناميات مشابهة لدى باقي الطوائف ولَو في سياقات مختلفة. وهي تشبه بذلك تأخّر المأسسة الطائفية الشيعية إياها عن سواها من مؤسّسات الطوائف الرسمية، إذ لم يتأسس المجلس الشيعي الأعلى إلا أواخر ستّينات القرن الماضي بعد زمن من قيام البطريركيات والرهبانيات ودار الفتوى.
وهذا يفسّر جوانب من "استثنائية"
الحالة الشيعية الراهنة، وتأخّر جلائها، رغم جلاء الاستثنائيات الطائفية الأخرى. يزيد
على ذلك، ويجعله أكثر تعقيداً وتراجيدية، تواجد الأكثرية الشيعية اللبنانية
تاريخياً على الحدود الجنوبية مع فلسطين، خلال ترسيم الحدود العام 1920، ثم مع
إسرائيل بعد النكبة العام 1948. أدّى الأمر الى تماس مباشر مع مآسي اللاجئين ثم مع
عدوانية الكيان الجديد المتصاعدة، والى الكفاح المسلّح الفلسطيني – اليساري
اللبناني ضدّه، ثم الى اجتياحاته وحروبه المتكرّرة، قبل تأسيس حزب الله وبعده.
تولّد عن الاجتياحات والحروب هذه، وعن غيرها من عوامل (اقتصادية بخاصةً) هجرات
وعمليات نزوح قسري لمئات ألوف الشيعة نحو ضواحي بيروت ونحو المهاجر القريبة
والبعيدة، مع ما عناه الأمر من تبدّل بيئات عمرانية وعلاقات اجتماعية وروابط
سياسية. نفس الأمر سرى، ولو في ظروف مختلفة، على شيعة البقاع، إذ أقاموا على تخوم
الحدود مع سوريا، ونزح بعضهم نحو ضواحي بيروت بحثاً عن العمل والتعليم، وظلّت
مناطقه الأصلية (الطرفية) مهمّشة.
بهذا المعنى، لم يأت تأسيس حزب الله بعد تعاون إيراني سوري وجد بداية في البقاع ضالتّه، ثم انتقل الى الجنوب بعد اجتياح إسرائيل الثاني له واحتلالها جزءاً واسعاً منه، مرفقاً بخطاب تعبوي وبمؤسسات خدماتية وبأجوبة على أسئلة "هوية قلقة"، (لم يأتِ) من فراغ. ولم تخفت مبررّاته الشيعية اللبنانية المتعرّضة لوحشية الاحتلال وعملائه رغم كل تجاوزات "الثنائي" في الداخل وانتهاكاته، إن في السياق الحربي الأهلي أو من بعده. كما لم يولّد تحالفه مع نظام المجازر والاغتيالات والبراميل الأسدي انتكاسة لشعبيته، ولَو اضطرّها على الدوام لتبرير نفسها والتذرّع بالأوضاع الإقليمية وبالحاجة لسوريا تمريراً للمدَد الإيراني، سلاحاً ومالا.
ولبنان إذ يواجه اليوم تبعات ونتائج كلّ هذا، نراه أمام فرصة إصلاحية نادرة يمثّلها نواف سلام، بدعم من جوزف عون ومن قسم كبير من المجتمع المدني. لكنّه يواجه أيضاً تحدّيات إقليمية كبرى، ويواجه رهانات داخلية على بعض هذا التحدّيات ومفاعيلها المحتملة. ويواجه حزباً شيعياً جريحاً يريد تعويض خساراته الميدانية في حربه الأخيرة بتصلّب داخل المؤسسات يسير به أيضاً شريكه في الثنائي، على نحو يصعب التعامل معه.
والأرجح أن لا حلّ للمسألة الشيعية راهناً، أو للاستعصاء الشيعي، إلا بتسويات موضعية حكومية، يسوّغها النظام الطائفي الذي لم يتهدّد بعدُ في أي حال ولم تتبدّل حصص أطرافه، شرط ألا تكون التسويات عائقاً أو حاجزاً إسمنتياً أمام الممكن من الإصلاحات، وأمام الإنقاذ المالي والاقتصادي الذي يريده اللبنانيون الشيعة مثل غيرهم، ويريدون معه وقبله إعادة إعمار ما هدّمته الهمجية الإسرائيلية في حرب كان يمكن لحزب الله عدم الاندفاع غير المدروس نحوها...
مقال منشور في 1 فبراير 2025 في ملحق القدس العربي