يمكن القول إن مباراة إيطاليا وإسبانيا هي أبرز مباراة
حتى الآن في بطولة كأس أوروبا 2016.
إسبانيا كانت تريد إثبات استمرار تفوّقها على غريمتها
منذ العام 1994 (تاريخ آخر فوز إيطالي عليها)، وإيطاليا تريد الثأر لخسارتها
النهائي الماضي أمام الإسبان (بنتيجة صفر لأربعة، وهي أكبر نتيجة في نهائي أوروبي
منذ انطلاق البطولة العام 1960). والأهمّ أن كلّاً من إسبانيا وإيطاليا كان يسعى لتعويض أوروبي عن سوء الأداء في كأس العالم الأخيرة التي خرج فيها المنتخبان من الدور
الأول.
وبمعزل عن الفوارق الفنية بين الفريقين وعن ثقافتَي اللاعبِين
المختلفتَين (بين ما يسمّى "اللاعب التقني" في الحالة الإسبانية
و"اللاعب المقاتل" في الحالة الإيطالية)، فإن التوقّعات كانت تشير الى
مباراة متكافئة والى احتمال امتلاك كرة إسباني لإنهاك الخصم وتوتيره ودفعه لارتكاب
الخطأ، مقابل تكتّل دفاعي إيطالي منظّم واندفاع سريع نحو الهجمات المرتدّة في محور
الملعب.
لكن ما جرى لم يكن على هذا النحو أبداً، أقلّة في الساعة
الأولى من المباراة.
فكونتي حضّر جيّداً للمواجهة حين أراح عدداً من لاعبيه
في مباراته الثالثة في الدور الأول (التي خسرها ضد إيرلندا بعد أن كان قد ضمن
التأهّل ومركز الصدارة)، وهذا ما لم يفعله ديل بوسكي في مباراة فريقه الثالثة التي
خسرها ضد كرواتيا، رغم أنه كان أيضاً قد ضمن التأهّل، فزجّ بنفس اللاعبين وبعضهم
بالأساس منهك (تماماً كما في كأس العالم 2014) نتيجة حدّة التنافس في الليغا ونتيجة
الموسم الأوروبي الطويل لخمسة من فرقها التي ترفد المنتخب بمعظم لاعبيه (أي أن
موسم الإسبان كان أطول بشهر تقريباً من مواسم باقي الفرق نتيجة نصف نهائي ثم نهائي
البطولتين الأوروبيتين اللتين حصدهما ناديَي ريال مدريد وإشبيليه).
كما أن كونتي فاجأ خصمه حين لم يسعَ الى اللعب الدفاعي
كما كان يُتوقّع، بل اتّكل على الروح الكفاحية العالية للاعبين المنظّمين على أساس
3-5-2 وبادر الى بناء هجمات خاطفة على الإسبان (المنتشرين وفق تشكيلة 4-1-3-2) من
لمسة واحدة تعطي فريقه الأفضلية إذ تتجنّب المبارزات الفردية مع لاعبين يتفوّقون عليهم تقنياً وتدفع الخصوم لبذل الجهد البدني الكثيف منذ الدقيقة الأولى، وهو ما لا
يستطيعون مجاراة الإيطاليين فيه. والتنظيم على أساس 3-5-2 منح الإيطاليّين ميزتين
أساسيّتين في هذه المباراة: التفوّق العددي في وسط الملعب بما يُلزم المهاجمين
الإسبان التراجع لمساعدة زملائهم في الوسط فيجعل انتقالهم الى الهجوم إن استلموا
الكرة أبطأ، والضغط على ثلاثي ناقلي الكرة وصانعي اللعب الإسبان – إنييستا
وفابريغاس وسيلفا - بما يجبرهم على الدوام على السعي لبناء الهجمة من الخلف عبر
اللجوء الى المدافعين وهذا ما يحدّ من أي خطر سريع على خطّ الظهر الإيطالي، ويجبر
الإسبان أيضاً على توسيع رقعة اللعب عبر اللجوء أكثر فأكثر الى التمريرات العرضية اتّكالاً
على الظهيرين فيذهب جزء من جهدهم في مساحة أفقية، وتنتهي انطلاقات الظهيرين برفعاتٍ
لا تشكّل خطراً على الكتلة الدفاعية الإيطالية الثلاثية لِتجانسها (دفاع جوفتنوس)
وتفوّقها في الكرات الهوائية على اللاعبين الإسبان الهجوميّين (الأقصر قامة والأقل
عدوانية).
بموازاة ذلك، برع الدفاع الإيطالي في التشتيت المنظّم،
بمعنى أنه كان يُشتّت على الدوام نحو طرفَي منطقة الجزاء وليس نحو "المحور"
بما لا يسمح بالاستفادة المباشرة ممّا يسمّى "الكرة
الثانية" (أي المتابعة الأولى بعد الارتداد) ويتركها موضع صراعٍ بين لاعبي الفريقين، فيعدم
خطورة الفرصة الثانية أو يقلّصها الى أبعد حدّ.
على أن التفوّق الإيطالي الحاسم، في الشوط الأوّل وفي
الربع الساعة الأول من الشوط الثاني، كان أوّلاً في اللعب في المساحات بين الخطوط،
عن طريق اللمسة الواحدة السريعة في المساحة الأولى (بين خطّي الهجوم والوسط
الإسبانيّين) بما يُحيّد لاعبَين إسبانيّين في النقلة الواحدة، ثم عن طريق التقدّم
بالكرة وانتظار المواكبة في الجناحين وفي العمق في نفس الوقت لتشتيت الكتلة
الدفاعية الاسبانية وجعلها تتمدّد في عرض الملعب، أو المراوغة ومحاولة الحصول على
خطأ في المساحة الثانية (بين خطّي الوسط والدفاع الاسبانيّين). ومن خطأ وكرة ثابتة
في تلك المساحة بالتحديد جاء الهدف الإيطالي الأول (بعد فشل الدفاع الإسباني في إبعاد التسديدة التي صدّها الحارس دون
الإمساك بها).
والتفوّق الإيطالي كان أيضاً في الضغط المتقدّم على ناقل الكرة بلاعبَين يحافظان دوماً على مسافة عامودية
بينهما، الواحد خلف الآخر، فإن مرّت الكرة عن الأول كان الثاني أمامها، وأن اضطرّ
أحدهما ارتكب الخطأ (فاول) وهو في منطقة بعيدة عن منطقة جزائه، وذلك لسببَين:
الأوّل كلاسيكي، لمنع بناءٍ سريعٍ لهجمة الخصم، ولإتاحة الفرصة للاعبي الدفاع
والارتكاز المتقدّمين بالعودة الى المساحة المطلوب منهم تغطيتها والتمركز الدفاعي
السليم فيها. والسبب الثاني لِشأن خاص بمواجهتهم إسبانيا: ذلك أن الضغط المتقدم قد
يجبر الإسبان على إرسال تمريرات طويلة عقيمة، أو كرات هوائية لا تفيدهم لأن موراتا
المحاصر من ثلاثة مدافعين إيطاليين (يعرفونه جيداً، فهو زميلهم في جوفنتوس) هو الوحيد
(بالنسبة لقامته) القادر على الارتقاء للعبها. أما في حالة التقدّم الاسباني ولعب
التمريرات الأرضية أو الوصول الى محيط منطقة الجزاء والحصول على ضربات حرّة أو
رفعات ركنية هناك، فالخطر يتصاعد من خلال التمريرات البينية التي يجيدها الإسبان أو من
خلال عدد اللاعبين الذين يتقدّمون لمحاولة الاستفادة من الكرات العالية مثل راموس وبيكيه
وبوسكيتس القادرين على مقارعة الثلاثي الدفاعي الإيطالي طولاً ولعباً هوائياً، وهو
ما كان ينبغي على الإيطاليين تجنّبه قدر المستطاع، عبر ما أشرنا إليه من ضغط متقدّم في الملعب
وأخطاء اضطرارية مُرتكبة في محيط منتصفه حصراً، نجحت في أكثر الأحيان في تحقيق مراميها.
بهذا منعت إيطاليا إسبانيا من الاستفادة من أي نقطة قوّة
تمتلكها، وفرضت عليها إيقاعاً منهِكاً حين يمتلك الإيطاليون الكرة بسبب سرعة
الحركة والنشاط الدائم، وإيقاعاً آخر حائراً يمكن توقّعه حين يمتلك الإسبان الكرة
لقلّة الخيارات ورتابتها أمام صانعي ألعابهم.
ولم يتعدّل توازن القوى هذا سوى في النصف ساعة الأخيرة
من المباراة بسبب تراجع اللياقة البدنية الإيطالية بعد الجهد الهائل المبذول على
مدى ساعة، وبسبب تركيز إنييستا وفابريغاس وسيلفا على اللعب دوماً في
العمق، والتسديد المباشر في الكرة الثانية – أي المرتدّة من الدفاع الإيطالي. وفي كرات
كهذه تهدّد بوفون مرّتين ونجح في إبعاد الخطر عن مرماه.
ومع تراجع الانتشار الدفاعي الإيطالي نحو منطقته في
الربع ساعة الأخير، تقدّم المزيد من اللاعبين الإسبان من الخلف، وجازفوا من أجل
مضاعفة ضغطهم بترك مساحات أفقية واسعة بينهم، لا يمكن مع خبرة المنتخب الإيطالي
بالهجمات المرتدة إلّا أن تنجم عن تهديد إضافي لمرماهم. فتألّق دي خيا أكثر من
مرّة في قطع الهجمات هذه المستفيدة من صعوبة العودة الدفاعية للظهيرين الاسبانيّين
المتقدّمين ومن بطء بيكيه وعصبيّة راموس، قبل أن تقضي هجمة إيطالية سريعة في
الدقائق الأخيرة على أمل الإسبان بالتعادل ويحرز بيليه هدف إيطاليا الثاني.
هل كان ممكن لإسبانيا أن تلعب بطريقة مختلفة؟ وهل كان
ديل بوسكي يملك خيارات أُخرى للتعامل مع المباراة؟ يصعب الجزم، ولا أحد أصلاً أكثر
إدراكاً بقدرات فريقه من المدرّب وجهازه الفنّي وبعض اللاعبين القياديّين (إنييستا
وراموس تحديداً في الحالة الاسبانية). لكن ربّما لو لعب بيدرو بدل نوليتو منذ
البداية ودخل فاسكيز في وقت مبكّر مكان موراتا لكان اللعب في العمق والأداء
الهجومي العامودي والسرعة الفائقة للاّعبَين المذكورَين أثّرت إيجاباً لصالح
الإسبان. وربّما لو أراح ديل بوسكي عدداً من لاعبيه المفاتيح في مباراة كرواتيا لَكسبَ
الإسبان كفاحية أعلى في اللعب مع فريق مثل إيطاليا.
في أي حال، فاز الفريق الأفضل في المباراة، وبان المنتخب
الاسباني رغم تقنية لاعبيه العالية وسيطرة الأندية الاسبانية على كرة القدم الأوروبية،
بحاجة الى تجديد والى بعض التعديل في فلسفة لعبه القائمة على الاستحواذ على الكرة
والتقدّم ببطء نحو مرمى الخصم ثم إيجاد الثغرة التي تمّكن من التسجيل بما يفتح اللعب
لاحقاً ويتيح المزيد من الفرص. تعاملت هولندا وتشيلي مع هذا الأسلوب وتمكّنت من
خنقه في كأس العالم 2014 عبر الانقضاض السريع على ناقل الكرة والضغط العدواني المتواصل وخنق المساحات التي يحتاج لها الإسبان، وتمكّنت إيطاليا من القيام بالأمر نفسه في
هذه المباراة الشيّقة تكتيكياً والأقل تشويقاً في جماليّاتها.
الربع نهائي المقبل هو بمثابة النهائي المبكّر بين
إيطاليا وألمانيا. وإذا كان الإيطاليون والإسبان قد تناوبوا على هزيمة ألمانيا في
السنوات العشر الأخيرة (أخرجت إيطاليا ألمانيا من نصف نهائي كأس العالم في الـ2006
ومن نصف نهائي كأس أوروبا في الـ2012، وهزمت إسبانيا ألمانيا في نهائي كأس أوروبا
2008 ثم أخرجتها من نصف نهائي كأس العالم 2010)، وإذا كان الإيطاليون تحديداً هم
عقدة ألمانيا المزمنة (لم تفز ألمانيا على إيطاليا في أي مباراة رسمية منذ أوّل لقاء
جمعهما في كأس العالم 1962، إذ تعادلا 4 مرّات وفازت إيطاليا 4 مرّات)، فإن
الألمان بعد أن أنهوا في كأس العالم 2014 التفوّق البرازيلي التاريخي عليهم (4 إنتصارات في
4 مباريات رسمية) سيسعون هذه المرّة بفريق متماسك الخطوط وعالي الفاعلية الى
الخلاص من العقدة الإيطالية، ومفاتيح الفوز لديهم متوفّرة، ودرس إسبانيا ماثل
أمامهم، وربما يكون جهد إيطاليا الكبير في هذه المباراة مقابل سهولة مباراتهم
الأخيرة مع سلوفاكيا ويوم الراحة الإضافي الذي حصلوا عليه عوناً لهم في الموقعة...
لِننتظر ونرى كيف سيتعامل كونتي ولاعبوه مع المنازلة المقبلة، ولتعِش كرة
القدم ومحبّوها!
زياد ماجد