Monday, December 30, 2024

العام 2024: استمرار حرب إبادة ونهاية نظام إبادة

يندر أن تتلاطم الأحداث في سنة واحدة على هذا النحو الاستثنائي الذي شهدناه في آخر العام 2024.

ففي عشرة أيام، ترنّح نظام الأسد في سوريا ثم سقط وهرب رئيسه تاركاً خلفه مقابر جماعية وسجوناً وتماثيل ومرتزقة جاهزين لتبديل الولاءات.

سبق ذلك وقفٌ لإطلاق النار في لبنان بعد تدميرٍ وقتل وخرابٍ أصاب مدناً وبلدات وآلافاً من البشر.

وسبق ذلك أيضاً ورافقه واستمرّ من بعده إمعان إسرائيلي في الإبادة الجماعية في غزة، وسط صمت أو تواطئ عالميّ أو استنكارات لم يعد لها معنى أو طائل، رغم تطّور مهمّ يجدر ذكره ويرتبط بمسارات عدالة دولية مستقلّة.

سوريا ولبنان وتحدّيات الخلاص وصعوباته

أسقط السوريون نظام الأسد في 8 كانون الأول ديسمبر 2024 بعد ثلاثة عشر عاماً من الثورة والكفاح المسلح والحروب والتدخلات العسكرية الإقليمية والدولية، وبعد تحوّلات عميقة شهدها المجتمع السوري نتيجة المجازر والتهجير والفرز الديموغرافي.

أسقطوا النظام بعد أكثر من نصف قرن من تأسيسه واختفى رئيسه وأركانه وأفراد أسرته، ولم يبق من أثر مباشر لهم ولسلطتهم سوى مئات السجون ومراكز الاعتقال والتعذيب التي جرى تحرير من ظلّ على قيد الحياة فيها، ومئات التماثيل التي جرى تحطيمها، وعشرات المقابر الجماعية التي ما زال التنقيب فيها مستمراً، ولَو بعشوائية وقلّة خبرة في معظم الأحيان. وبقي من أثرهم أيضاً اقتصاد منهار ودمار مدن وبلدات وأطنان من المخدّرات التي كانت مصدر دخلهم الأساسي في السنوات الأخيرة.

على أن الخلاص من الحُكم الأسدي ونظام التوحّش الذي ابتناه يعني أيضاً الخوض في مسار عسير للتعامل مع مسائل الطائفية ووحدة الأراضي واحترام التعدّد والحريات العامة والخاصة وحماية الحدود وبناء أجهزة عسكرية وأمنية وإدارية جديدة وصياغة دستور وقانون انتخاب وتشكيل قضاء مستقلّ وإنهاء مفاعيل قوانين الطوارئ ومكافحة الإرهاب والسير في مقتضيات العدالة الانتقالية، إضافة طبعاً الى كل ما يرتبط بإعادة الإعمار وإطلاق العجلة الاقتصادية والبحث عن سُبل التعاون التجاري والجمركي مع تركيا والعراق ولبنان والأردن وإعادة الجولان المحتل الى أولويات الديبلوماسية السورية، وغير ذلك من مهام شاقة وإلزامية.

وإذا كان النجاح في هكذا مهام غير مضمون في المديين القصير والمتوسّط، إلا أن المضمون، أو ما يمكن الجزم به، هو أن المجتمع السوري عاد الآن رسمياً الى السياسة والى حقل الممكن وأسئلته بعد أن جمّدها نظام الأسد وأحلّ منظومة الاستبداد وإبادةِ المختلِف مكانها على مدى 54 عاماً. 

وفي لبنان، أنهى الاتفاق على وقف إطلاق النار ضراوة الحرب الإسرائيلية على الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية لبيروت. وأتاح الاتفاق لمئات الآلاف من المهجّرين العودة الى بلداتهم ومدنهم، ولَو أن عشرات الآلاف من بينهم خسروا بيوتهم وأشغالهم وخسروا معها البنى التحتية والكثير من المنشآت الحيوية الضرورية لتسيير حياتهم.

وكشفت الحرب ثم وقف إطلاق النار الذي ما زالت إسرائيل تخرقه دورياً هشاشة الحسابات السياسية والعسكرية التي اعتمد عليها حزب الله ومن خلفه إيران حين فتحا جبهة الإسناد لحركة حماس ولغزة. وكشفت الحرب أيضاً حجم الاختراقات الإسرائيلية والأمريكية في جسم الحزب اللبناني نتيجة انكشافه على مدى عشر سنوات من مشاركته الكارثية في المقتلة السورية حيث "انفلش" في مناطق لا سيادة له عليها وعلى الأجهزة الروسية وعلى النظام الأسدي الفاسد والمُخترَق فيها. وكشفت كذلك كيف وظّفت تل أبيب وواشنطن الذكاء الاصطناعي عسكرياً وكيف حضّرا للحرب على مختلف الصعد، في حين اكتفى حزب الله بالرهان على كفاءته القتالية الميدانية التي نجحت إسرائيل في تجنّبها في معظم الأحيان، معتمدة حرباً جوّية شاملة لم يتمكّن الحزب من التعامل معها.

ويمكن القول إن نتائج هذه الحرب ظهرت وتظهر تباعاً في الداخل اللبناني. فثمة من جهة معضلة ترتبط باستحالة إعادة الإعمار في الكثير من المناطق الجنوبية الحدودية التي ما زالت إسرائيل تقتحمها وتفجّر المباني فيها، وثمة من جهة ثانية شحّ في الموارد وانعدام أفق مالي إعماري في المناطق حيث يمكن السير في الترميم أو إعادة الإعمار المذكور، التي ستكون المساعدات الدولية لبدئها مشروطة سياسياً، تماماً كما كانت وما زالت مشروطة المساعدات الاقتصادية للبنان منذ انهياره الناجم عن فساد قياداته وسوء خططهم وتدبيرهم.

يضاف الى ذلك أن الحرب بيّنت مرة أُخرى عمق الانقسامات السياسية في البلد وتكرار رهان البعض على العوامل الخارجية، حتى ولو كانت إسرائيلية، لتبديل موازين القوى الداخلية. وهذا في ذاته خطر دائم على الاستقرار والسلم الأهلي بعد تجارب الاحتلالات والصراعات جميعها، حتى ولَو كان حزب الله بسلاحه وفائض قوّته وارتباطه الإيراني المسؤول الأوّل عنه في الآونة الأخيرة.

وإن كان من بارقة أمل بعد الحرب المدمّرة وخسائرها الفظيعة التي سيعاني منها اللبنانيون لفترة غير قصيرة، فهي في احتمالات إحياء بعض مؤسسات الدولة، عبر انتخاب رئيس جمهورية وتشكيل حكومة جديدة تفاوض اقتصادياً وتحضّر لانتخابات نيابية ولحوار جدّي هذه المرة حول الاستراتيجية الدفاعية للبنان وحول أسلحته وحدوده، خاصة بعد سقوط النظام الأسدي، وبعد التأكيد الأممي على تطبيق القرار 1701.

إستمرار الإبادة في فلسطين والتمويل الأميركي لها

لم تتوقّف طيلة العام 2024 حرب الإبادة الإسرائيلية ضد الفلسطينيين في غزة، وباتت حربَ الإبادة الأطول أمداً والأكثر همجيّة منذ الحقبة النازية الألمانية.

وبعد الفدرالية الدولية من أجل حقوق الإنسان وعشرات الهيئات والمنظّمات الوطنية والعالمية، وبعد مئات الخبراء في القانون الدولي ودراسات الإبادة، وبعد مقّررة الأمم المتّحدة للأراضي الفلسطينية والعديد من الدول والمنظومات الإقليمية، اعتمدت منظمة العفو الدولية ومثلها منظمة هيومن رايتس ووتش الإبادة – الجِنوسايد كمصطلح قانوني لتوصيف الجرائم الإسرائيلية في غزة. وهذا ليس بالتفصيل، مثله مثل صدور مذكّرات توقيف عن المحكمة الجنائية الدولية بحق نتنياهو وغالانت بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، ومثل استمرار محكمة العدل الدولية في البحث في الدعوى القانونية التي قدّمتها جنوب إفريقيا ضد إسرائيل بتهمة الإبادة الجماعية، ومثل إصدار المحكمة إياها قرارها حول اعتبار الاحتلال الإسرائيلي والاستيطان في الأراضي المحتلة منذ العام 1967 (الضفة والقدس الشرفية وغزة) جريمة ضد الإنسانية ونظام تمييز عنصري – أبارتايد. فهذه القرارات والمذكّرات والمصطلحات القانونية المستخدمة تشكّل تصدّعاً مهمّاً في جدار الحصانة الذي حمى جرائم إسرائيل منذ قيامها. وهو يحاصر قادتها ويقلّص من هوامش تحرّكهم، ولَو أنه لا يوقف الإبادة نفسها. فهذه تستمرّ بإدارة الحكومة والجيش الإسرائيليين، وبدعم من رأي عام واسع في إسرائيل، وبتمويل أمريكي بلغ 18 مليار دولار وآلاف الأطنان من الذخائر. وتستمرّ كذلك بتواطؤ أو صمت حكومات غربية وعربية لم تتّخذ إجراءً واحداً لمعاقبة مرتكبيها أو تجميد العلاقات بهم. 

وبعد أن كان العام 2024 عام نكبة غزة الكبرى وعام تمسّك أهلها بالحياة بكافة الطرق والوسائل، سيكون العام 2025 على الأرجح عام التحدّيات في القطاع المنكوب ما أن تتوقّف الحرب، وعام التحدّيات في القدس والضفة الغربية التي يبدو واضحاً تخطيط الحكومة الإسرائيلية لضمّها أو لضمّ أجزاء منها، اتّكالاً على وصول دونالد ترامب الى البيت الأبيض واحتمال مباركة إدارته للأمر أو على الأقل عدم رفضها له.

هكذا أقفل العام على ثلاث ديناميات مختلفة في سوريا ولبنان وفلسطين. وهكذا بدا هذا الثالوث المشرقي مُقبلاً، في خلاص بعض أهله أو في مواجهة بعضهم الآخر للإبادة، على استحقاقات وتحوّلات إضافية ستبدأ بلا شكّ في العام الطالع، وستستمرّ طويلاً، مغيّرةً سوريا ولبنان وفلسطين (وإسرائيل)، ومؤثّرة في العالم ومنظوماته بأسرها.

زياد ماجد

مقال منشور في ميغافون