Wednesday, July 17, 2024

الكتل الناخبة الفرنسية والمأزق الديمقراطي

بعد نتائجِ الانتخابات البرلمانية الأوروبية في 9 حزيران/يونيو 2024 التي حصلت فيها لائحتا اليمين المتطرّف الفرنسي على 31 من أصل 80 مقعداً مخصصة لفرنسا (وفق كوتا تتبع الأحجام الديموغرافية لبلدان الاتحاد الأوروبي)، وبعد حلِّ الرئيس إيمانويل ماكرون البرلمان الوطني في اليوم التالي لصدور النتائج الأوروبية ودعوته لانتخابات فرنسية مبكرة، جرت هذه الانتخابات التشريعية على دورتين (في 30 حزيران/يونيو و7 تموز/يوليو 2024) وأعادت رسم المشهد السياسي في فرنسا مظهّرة ديناميات سياسية واجتماعية جديدة ستجعل الحكم المستقرّ في البلاد متعذّراً لفترة غير قصيرة.

أهداف ماكرون وتقديراته الخاطئة

حاول ماكرون في الأيام التي سبقت الدورة الانتخابية الفرنسية الأولى في 30 حزيران/يونيو التركيز على مهاجمة من أسماهم المتطرفين يميناً ويساراً، مراهناً على قدرته بعد الهزيمة الأوروبية على استعادة المبادرة وجذب قسم من اليمين التقليدي واليسار الاشتراكي الى صفوفه، بما يجعل كتلته بتحالفها الجديد القوة الوحيدة القادرة على مواجهة اليمين المتطرّف. ولأن الانتخابات التشريعية الفرنسية تجري على أساس الدائرة الفردية وبنظام أكثري من دورتين (على العكس من الانتخابات الأوروبية التي تجري على أساس الدائرة الواحدة – أي فرنسا ككل – وعلى أساس النظام النسبي)، اعتبر ماكرون أن مرشّحيه (إن حصلت التحالفات التي أشرنا إليها) سيكونون في مواجهة مرشّحي اليمين المتطرّف في الدورة الثانية (التي يتأهّل إليها كلّ من حصل على أكثر من 12,5 في المئة من الأصوات في الدورة الأولى)، في معظم الدوائر خارج المدن الكبرى والمتوسّطة (حيث اليسار يبقى القوّة الأبرز حتى ولو انشق اشتراكيون عنه).

لكنّ محاولات ماكرون فشلت تماماً. فاليسار توحّد بأقطابه مجتمعة، من الحزب الاشتراكي الى الحزب الشيوعي فالخضر وفرنسا العصيّة وصولاً الى الحزب المعادي للرأسمالية (التروتسكي). واستعاد تسمية "الجبهة الشعبية" التي انتصرت في ثلاثينات القرن الماضي على اليمين خلال صعود الفاشيات الأوروبية، وبدت الأوساط النقابية والهيئات الطلابية وقوى من المجتمع المدني الحقوقية والثقافية والفنية والمناهضة للعنصرية ضاغطة على المسؤولين اليساريّين ليظلّوا موحّدين ويبلوروا برنامجاً انتخابياً واضحاً في مواجهة اليمين المتطرّف. أما اليمين التقليدي فقد انقسم بين مجموعة انضمّت الى اليمين المتطرّف، ومجموعة ثانية قرّرت المحافظة على كيانيتها وخوض الانتخابات مستقلّة عن الجميع.

هكذا، انعكس فشل حسابات ماكرون على معسكره، فعلت داخله الانتقادات له ولفرديّته وتهافت رهاناته وخطأ مغامرته بحلّ البرلمان. ولولا تحوّل معركة الأقطاب الماكرونيين المتنافسين على وراثته (فيليب ودرمانين ولومير بخاصة) الى معركة وجود سياسي تتطلّب استنهاض كل علاقاتهم وقواعدهم الشعبية، ولولا تماسك رئيس الوزراء غابريال أتال وفريق عمله ونجاح حملته الانتخابية التي ميّز خلالها نفسه عن ماكرون، لانفرط بلا شكّ عقد المعسكر الماكروني وتحوّلت الانتخابات التشريعية الى كارثة له.

الانتخابات والمشاركة القياسية

في 30 حزيران-يونيو جرت إذن انتخابات الدور الأول بمشاركة شعبية قياسية تُعد الأعلى في فرنسا منذ ثلاثين عاماً (تخطّت نسبة المشاركة عتبة الـ66 في المئة – بزيادة 15 نقطة عن الانتخابات الأوروبية التي سبقتها بثلاثة أسابيع). وحافظ اليمين المتطرّف ممثّلاً بحزب مارين لوبن "التجمع القومي" على نفس النسبة تقريباً التي حصل عليها في الانتخابات الأوروبية، أي 33 في المئة من الأصوات، في حين انهار الحزب اليميني المتطرّف الثاني "الاستعادة" الذي يقوده إريك زمور بعد انشقاق كوادره بقيادة ماريون ماريشال عنه (ابنة أخت لوبن)، ولم يتخطّ مجمل ما حصل عليه الـ1 في المئة. وحلّ تحالف اليسار ثانياً بحصوله على 28 في المئة من الأصوات، فيما حلّ الماكرونيون وحلفاؤهم الوسطيّون في المركز الثالث بـ21 في المئة. ولم تُحسم في الدورة الأولى سوى نتائج 76 دائرة انتخابية من أصل 577، حصل فيها 39 مرشّحاً من اليمين المتطرّف و32 من اليسار و4 من الماكرونيين والوسطيين وواحد من اليمين التقليدي على أكثر من 50 في المئة من الأصوات.

وتأهّل بالتالي الى الدورة الثانية مرشّحان في 194 دائرة، وثلاثة مرشحين في 306 دوائر (وأربعة مرشحين في دائرة واحدة). وهذا عنى احتمال فوز اليمين المتطرّف في معظم الدوائر حيث يتنافس ثلاثة مرشّحين (أو أربعة)، ذلك أن كتلته ستبقى موحّدة، في حين أن خصومه سينقسمون على مرشّحَين (أو ثلاثة). ولو حصل ذلك، لبات لهذا اليمين المتطرّف أكثرية برلمانية تجعله لأول مرّة في تاريخه على أبواب السلطة (علماً أن الأكثرية المطلقة في البرلمان هي 289 نائباً).

لكن مبادرة اليسار بسحب مرشّحيه الذين جاؤوا في المركز الثالث في 134 دائرةً حل فيها اليمين المتطرّف أوّلاً أو ثانياً بفارق ضئيل عن الأول، ودعوته الى التصويت للماكرونيين والوسطيين الذين حلّوا في المركز الثاني (أو الأول الواقع في دائرة الخطر)، وتجاوُب رئيس الحكومة غابريال أتال مع المبادرة اليسارية وسحبه من جهته 82 من مرشّحي معسكره حلّوا في المركز الثالث (رغم عدم صدور موقف إيجابي في هذا الصدد من ماكرون نفسه) ودعوته للتصويت للمرشّحين اليساريين المواجهين لليمين المتطرّف، قلّصت من فرص فوز الأخير في معظم الدوائر.

وبالفعل، لم يفُز اليمين المتطرّف في هذه الدورة الثانية سوى في 104 دوائر، في حين فاز الماكرونيون والوسطيون بفضل "تبادل الأصوات" مع اليسار في 164 دائرة، واليساريون (بفضل تبادل الأصوات مع الماكرونيين) في 150 دائرة، وفاز اليمين التقليدي في 45 دائرة.

وفاز مستقلون من اليسار واليمين ومن مرشحي النزعات أو الهويّات المناطقية بـ32 مقعداً.

بذلك حلّ التحالف اليساري أولاً في البرلمان الجديد حاصلاً بعد انتهاء الدورتين على 182 مقعداً، وجاء بعده الماكرونيون والوسطيون بكتلة من 168 نائباً ثم اليمين المتطرّف الحاصل على 143 مقعداً يليه اليمين التقليدي بـ46 مقعداً. ودخل الى البرلمان 38 نائباً كمستقلين عن التكتّلات الأربعة المذكورة رغم هويّاتهم السياسية المعلنة: 14 يمينياً، 13 يسارياً، 6 وسطيين، 4 جهويّين (ونائب واحد "غير مصنّف").

ولجهة حجم التصويت الشعبي واتجاهاته، شارك 31 مليون فرنسي في الانتخابات، صوّت بحسب أرقام وزارة الداخلية قرابة الـ11 مليون منهم لليمين المتطرّف و9,5 ملايين لليسار و7.2 ملايين للماكرونيين والوسطيين و3 ملايين لليمين التقليدي، وتوزّعت أصوات مليون ناخب على المرشّحين الجهويّين أو غير المصنّفين أو من حزب الكفاح العمّالي ومن مجموعتين أخريين من أقصى اليسار.

وإذا كانت الجبهة اليسارية قد فازت بأكثرية المقاعد المخصّصة للمدن الكبرى والمتوسّطة وضواحيها القريبة وبالعديد من دوائر الجنوب الغربي والغرب، فإن الماكرونيين والوسطيين نافسوها في بعض هذه المدن والدوائر، وتقدّموا عليها في دوائر الغرب والوسط حيث نفوذ العديد من أقطاب الماكرونية (خاصة أولئك الذين وفدوا إليها العام 2017 من صفوف الحزب الاشتراكي). وفي حين حافظ اليمين التقليدي على مواقع له متناثرة على الخريطة الفرنسية مع حضور أساسي في وسط البلاد، في دوائر لعبت فيها شبكاته التاريخية ووجهاؤها دوراً محورياً، كرّس اليمين المتطرّف سيطرته على دوائر الشمال، الصناعية أو التي كان للمناجم مساهمة أساسية في اقتصادها المتراجع، وعلى دوائر الشرق والوسط الريفية وعلى دوائر الجنوب والجنوب الشرقي الريفية والساحلية، حيث شرائح المتقاعدين الأثرياء (المنتقلين للإقامة على مقربة من الشاطئ)، والمطرودين من المستعمرات الفرنسية في أفريقيا، لا سيّما من الجزائر العام 1962، والمنشقين من اليمين التقليدي نحو اليمين المتطرّف، و"الخائفين" من الهجرات عبر البحر المتوسّط، تصبّ خياراتها لصالح حزب مارين لوبن.

ويمكن في ختام توصيف هذا المشهد الانتخابي الفرنسي القول إن نظام الانتخاب الأكثري من دورتين وارتفاع نسبة المشاركة من جهة، وكثرة عدد الدوائر (577) وتبادل الأصوات في الدورة الثانية والحاسمة بعد الانسحابات المتبادلة بين اليسار (الذي نجح في رفع المشاركة بين الناخبين الذي يصوّتون للمرة الأولى) والماكرونيين والوسطيين من جهة ثانية، أدّت الى محاصرة اليمين المتطرّف. ورغم تقدّمه في عدد الناخبين الإجمالي، إلا أن جمهوره يتركّز في مناطق محدّدة فاز فيها أحياناً بفوارق كبرى، في حين أنه ينحسر في التجمّعات المدينية وفي مناطق أُخرى كثيرة، ممّا يقلّل من عدد المقاعد التي يصارع عليها. وإذ التأم في مواجهته التحالف اليساري-الوسطي، أو "القوس الجمهوري" على ما أسماه مريدوه، انعدمت حظوظ فوزه في أغلبية الدوائر.

الحكومة الجديدة المتعّذرة وخيارات ماكرون

لم يحصل أيٌ من الكتل الكبرى في فرنسا على أكثرية مطلقة في البرلمان تدفع رئيس الجمهورية وفق العرف السياسي المتّبع في الجمهورية الخامسة (أي منذ العام 1958) الى تكليف رئيس حكومة تختاره هذه الأكثرية. لكن تأويل "العرف الأكثري" إياه يدفع الى القول بوجوب أن يسمّي الرئيس مرشّحَ أو مرشّحة الأكثرية البرلمانية النسبية. وبهذه الحال، فإن عليه تسمية من سيرشّحه اليسار، الحاصل على هذه الأكثرية النسبية (إذ لديه الكتلة البرلمانية الأكبر). لكن عوائق ثلاثة تحول دون ذلك حتى الآن. العائق الأول أن رئيس الجمهورية يرفض الأمر، ويراهن على خلافات وبضعة انشقاقات في الجبهة اليسارية من ناحية وعلى إقناع بضعة يمينيين تقليديين على الانضمام الى كتلته من ناحية ثانية، ليقول إن لا أكثرية نسبية لليسار تُتيح له ترشيح أحد الى المنصب الوزاري الأول. العائق الثاني يرتبط بالدستور، الذي لا مهل محدّدة فيه تُقيّد الرئيس، المُفضّل الإبقاء على حكومة تصريف أعمال برئاسة أتّال لما بعد انتهاء الألعاب الأولمبية في باريس (أي بعد شهر من الآن). وهذا يمنحه وقتاً إضافياً لمحاولة تغيير موازين القوى في البرلمان الجديد وخلط الأوراق. أما العائق الثالث، فمن اليسار نفسه، الذي قد لا يتّفق أقطابه على مرشّح. فبين فرنسا العصية بقيادة ميلانشون، الطرف الأقوى في المعادلة اليسارية الحالية، والحزب الاشتراكي الذي وسّع كتلته واستعاد جزءاً من وزنه وحضوره التاريخي، ليست الأمور على أفضل ما يرام. ورغم محاولات الخضر والشيوعيين البحث الدائم عن حلول مقبولة من الجميع، فإن

التوصّل الى ذلك دونه صعوبات. والمحاولة الأخيرة في هذا الصدد هي ترشيح الخضر والشيوعيين النائبة السابقة ورئيسة الهيئة المناطقية لجزيرة "ريونيون" الفرنسية في المحيط الهندي (مقابل مدغشقر والسواحل الشرقية الأفريقية) السيدة هوغيت بلّو لترؤّس الحكومة. وهو ترشيح وافق عليه ميلانشون، وما زال الحزب الاشتراكي يتحفّظ عليه، مرشِّحاً أمينه العام أوليفيي فور.

وحتى لو سحب الاشتراكيّون تحفّظهم وترشيحهم، فإن ماكرون غير ملزم دستورياً بالتسمية. وحتى لو انصاع في آخر المطاف لهذا الخيار اليساري وسمّى السيدة بلّو، فإن عمل حكومتها سيكون شديد الصعوبة في ظلّ التشظّي الحاصل في البرلمان الذي يمنع تشكّل أي أكثرية مطلقة الى جانبها.

بمعنى آخر، دخلت فرنسا، في كلّ سيناريوهات التشكيل الحكومي الممكن، مرحلة جديدة في تاريخها السياسي، ستقوم على المفاوضات والتسويات والأكثريات النسبية المؤقّتة، وعلى تنازع مركز السلطة الفعلي بين برلمان منقسم بحدّة على ثلاثة أو أربعة كتل، وبين سلطة تنفيذية قد يكون رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة فيها في موقعين متنابذين سياسياً.

وهذا يشير الى أن فرنسا أمام مشهد لم تألف التعامل معه من قبل. والانقسامات السياسية الحادة فيها لا شيء سيقلّصها. فمقدار كراهية قسم كبير من الفرنسيين لليمين المتطرّف، لا يوازيه سوى مقدار كراهيات مماثل لماكرون أو لفرنسا العصية وللخضر لدى أقسام أخرى من الفرنسيين. والأشهر المقبلة ستكون بلا شك مثيرة للاهتمام لما فيها من تحدّيات ومستجدّات وصعوبات. وستكون خطيرة أيضاً لما قد يحصل فيها من اضطرابات وإضرابات ونزول الى الشارع للضغط هنا أو للدعم هناك...

زياد ماجد

مقال منشور في ملحق القدس العربي