تتحضّر فرنسا للدورة الثانية من الانتخابات
الرئاسية التي سيتواجه فيها كما في العام 2017 إيمانويل ماكرون ومارين لوبان. وإذا
كانت المواجهة الأولى بين المرشّحين انتهت قبل خمس سنوات بفوز ساحق لماكرون، فإن
المواجهة الثانية لن تكون سهلة ولن تنتهي بفارق كبير، ولو أن تكرار فوز ماكرون فيها
مرجّح لأسباب عديدة.
وقبل الخوض في هذه الأسباب، يفيد التوقّف عند بعض الملاحظات المرتبطة بما ظهّرته انتخابات الدورة الأولى من معطيات وديناميّات وموازين قوى سياسية.
فرنسا المنقسمة الى ثلاثة معسكرات
أولى الملاحظات هي تلك المرتبطة بانقسام فرنسي حاد بين معسكرات شبه متساوية.
الأول والأكبر، هو معسكر اليمين المتطرّف
واليمين القومي (مارين لوبان وإريك زمّور ونيكولا ديبون آنيان وجان لاسّال) الذي
حاز على 35 في المئة من الأصوات. الثاني هو معسكر يمين الوسط واليمين (إيمانويل
ماكرون وفاليري بيكريس) الذي حاز على قرابة 32 في المئة من الأصوات، والثالث هو
معسكر اليسار والبيئيّين وأقصى اليسار (جان لوك ميلانشون وآن هيدالغو ويانيك جادو
وفابيان روسّيل وفيلبيب بوتو وناتالي آرتو) الذي حصل أيضاً على حوالي 32 في المئة
من الأصوات.
على أن العديد من التمايزات والاختلافات في
التوجّهات وفي الخلفيات تبرز عند التدقيق في قوى كل معسكر.
ففي اليمين المتطرّف، تبدو لوبان مرشّحة ثلاث شرائح من الناخبين مدّتها ب22 في المئة من أصوات الناخبين الفرنسيين. شريحة ريفية واسعة، يوحّدها عداء للاتحاد الأوروبي وللعولمة وما تُمليه من شروط استيراد وتصدير زراعي، ويحرّكها حقد على الاستبلاشمنت السياسي أو على "النخب الباريسية" الحاكمة. وشريحة عمّالية أو من طبقات شعبية من مدن صغيرة أو من تجمّعات سكّانية نشأت على مفترقات طرق سريعة رئيسية في وسط فرنسا أو من مناطق صناعية ومنجمية سابقاً أطاحت بها التحوّلات الاقتصادية (في الشمال بخاصة حيث كانت تصوّت في السابق للشيوعيين والاشتراكيين) ووجدت أيضاً في العداء لسياسات "المركز" وللمهاجرين كما للاتحاد الأوروبي ملاذاً لها. وشريحة ثالثة من فئات ميسورة بعضها متقاعد أو من الموالي تاريخياً لحزب الجبهة الوطنية الذي ترأسه والد لوبان، وله في الجنوب الشرقي معاقل مهمة، وهو لا يخفي تصويته من منطلق عنصري صرف ضد المهاجرين والمسلمين، لا سيّما الوافدين من الجزائر وإفريقيا. وتشير معظم الدراسات الى أن أكثرية هؤلاء في الشرائح المختلفة من محدودي المستوى التعليمي أو متوسّطيه.
وفي المعسكر اليميني المتطرّف إياه، تتكوّن
الكتلة الناخبة التي دعمت زمّور من مجموعتين أمّنتا له 7 في المئة من أصوات
الفرنسيين. مجموعة من الخارجين من حزب لوبان لاعتبارهم أنها اعتدلت في بعض مواقفها
وتراجعت عن مصطلحات حزبها التاريخية (في موضوع الهوية والعلاقة بأوروبا وقضايا
إجتماعية وثقافية مثل الإجهاض وحقوق المثليّين) لتسوّق نفسها رئاسياً بعد فشلها
الذريع العام 2017. وهؤلاء يرون أن زمّور هو الأقدر على تمثيل تيّارهم وعلى مواجهة
ماكرون من جهة واليسار من جهة ثانية. ومجموعة من الكاثوليك المحافظين في بعض
الأرياف ومن الفئات مرتفعة الدخل في المدن التي ترى في القيم التي يعلنها زمّور من
دون مواربة قيمها، وهي بهذا المعنى الأكثر عنصرية في المعسكر اليميني المتطرّف،
وقد حظيت بدعم بعض وسائل الإعلام المرئي مثل "سي نيوز" والمكتوب مثل
"فالور أكتُيال". ومن بين المنضوين في صفوف الداعمين لزمّور في الأوساط
المدينية جامعيّون وكوادر طبقة متوسطة عليا وناشطون في جمعيات وحركات نيو-فاشية
ونيو-نازية.
أما المرشّحان الآخران، ديبون آنيان ولاسّال،
فيختلفان في خلفيّاتهما عن لوبان وعن زمّور ولو أن التقاطعات تجعل جمهورَيهما
بالنتيجة في معسكر واحد مع اليمين المتطرّف وهو سيصوّت بمعظمه للوبان في الدورة الثانية.
فديبون آنيان يحظى بتأييد محدود جداً في الأرياف والمدن (2 في المئة من المقترعين)
من يمينيين قوميين من طبقات وسطى تجمعهم الرغبة بالانعزال وإعلاء هوية فرنسية "مقفلة"
ورفض مقولات التنوّع والتعدّدية. ومعظمهم يغريه كون الرجل لم يتبوّأ مسؤوليات
عليا سابقة، وهو بالتالي مختلف عن الطاقم السياسي اليميني التقليدي أو اليميني
المتطرّف وقد يكون انتخابه بالنسبة إليهم تجديداً في النخبة السياسية. جان لاسّال
من جهته يمثّل جانباً من جوانب "فرنسا العميقة"، أي فرنسا القرى
الزراعية والعمل اليدوي، وبرنامجه ذو عناوين فضفاضة (خاصة أنه وافد الى اليمين
القومي من صفوف الوسط)، وما يجمع ناخبيه (3 في المئة تقريباً من إجمالي المقترعين
الفرنسيين) بباقي ناخبي اليمين القومي واليمين المتطرّف هو "غضبهم" من
النخب الحاكمة واعتبارهم باريس والاتحاد الأوروبي معاديان للمزارعين ومصالحهم.
في معسكر يمين الوسط واليمين، يبرز بالطبع إيمانويل ماكرون. فالرئيس الساعي لولاية انتخابية ثانية نجح في انتخابات العام 2017 في اجتذاب الوسطيّين من الحزبين التاريخيين اللذين حكما فرنسا في جمهوريتها الخامسة (أي منذ العام 1958)، وشكّل عبرهم وعبر جيل جديد من المتعلّمين المدينيين التكنوقراط "المُعولمين" والخارجين عن الاصطفافات اليمينية واليسارية السابقة حزبه "الجمهورية الى الأمام". بهذا بدا برنامجه يمينياً في الاقتصاد وفي الإعفاءات الضريبية و"إصلاحات" التعليم والخدمات والنظم التقاعدية، مع محافظة على إنفاق إجتماعي عالٍ أبقى على تراث دولة الرعاية وعزّزه خلال أزمة كوفيد، إذ أنفقت حكومته مئات المليارات دعماً للمؤسسات ولمستخدميها وتعويضاً عن البطالة وتراجع الأنشطة الاقتصادية. وحضّر ماكرون للانتخابات عبر تعديلات حكومية في النصف الثاني من ولايته أتت بوجوه يمينية، فبان أنه يسعى الى إضعاف حزب الجمهوريين تماماً كما سبق أن أضعف الحزب الاشتراكي في نصف ولايته الأول عندما استقطب كثراً من قياداته الوسطية أو ممّن كانوا معه خلال ولاية فرنسوا هولاند حيث بدأ حياته السياسية الرسمية.
وقد نجح ماكرون بالفعل في جذب بعض قواعد
اليمين الفرنسي، ومتّن علاقته ببرجوازيات مدينية وبرجال أعمال وبأصحاب مصالح كبرى
أفادتهم سياساته المالية ويفضّلون توجّهاته في أي حال، وفي مقدّمها التوجّهات
الأوروبية والمعولمة، على سواها من التوجّهات المعلنة لدى جميع منافسيه. وحافظ
ماكرون على داعميه في الطبقات الوسطى والوسطى العليا في المدن، وأدّى كل ذلك الى
وضعه في صدارة الدورة الأولى بمجموع قارب الـ28 في المئة من الأصوات.
أما اليمين، فلم تستطع مرشّحته فاليري بيكريس
الاحتفاظ بقواعده وبعدد من قادته ومسؤوليه السابقين، فتسرّب وسطيّوه الى حزب
ماكرون في حين جنح المتشدّدون فيه نحو زمّور في المدن ونحو لوبان (وأحياناً نحو
لاسّال) في الأرياف، ولم تحصل بيكريس بالتالي سوى على نسبة 4 ونصف في المئة من
الأصوات وضعتها في المرتبة الخامسة.
يبقى المعسكر الثالث، أي معسكر اليسار. وهو معسكر شديد التشتّت رغم إحراز أحد أقطابه ميلانشون النتيجة الأعلى واستقطابه لوحده ثلثي ناخبي اليسار الفرنسيين.
فميلانشون الحاصل على 21 في المئة من أصوات المقترعين
قاد حملة إنتخابية هي بلا شك الأكثر حيوية وابتكاراً، وهي الوحيدة التي ظلّت
تتصاعد وتتوسّع وتعبّئ قواعد تاريخية أو جديدة لليسار في المدن الكبرى والمتوسّطة
وضواحيها، وفي مناطق غرب فرنسا كما في وسطها وجنوبها الغربي حيث حلّ ميلانشون
أوّلاً أو ثانياً. وقد والى حملته عدد كبير من العاملين في القطاع التعليمي
المدرسي والجامعي، وحظي بتأييد واسع في النقابات العمالية والمهنية، ونافس لوبان في
جذب الشرائح الاجتماعية الشعبية، كما نافس الشيوعيين في أوساط الفرنسيين المتحدّرين
من أصول مغاربية وأفريقية.
وأدّى تقدّم ميلانشون الى تراجع المرشّحين
اليساريّين الآخرين الذين آثر قسم من جمهورهم التصويت له لاحتمالات بلوغه الدور
الثاني. هكذا لم يتخطّ يانيك جادو مرشّح البيئيين نسبة الـ5 في المئة من الأصوات (نال
حوالي 4 ونصف في المئة) أتت من المدن الكبرى والمتوسّطة من شرائح متعلّمة وتنتمي
غالباً للطبقة الوسطى العليا. ولم يستطع مرشّح الحزب الشيوعي فابيان روسّيل الحصول
على أكثر من 2 في المئة من الأصوات وفّرتها له قواعد الحزب التاريخية في بعض
الضواحي الشعبية والأحياء المدينية الكبرى وفي مدن وبلدات انتمت عائلات فيها الى
الحزب واستمرّت على ولائها. وقد حاول روسّيل اعتماد لغة سياسية بسيطة والتطرّق الى
قضايا الهوية والثقافة على طريقة الزعيم الشيوعي الراحل جورج مارشيه بهدف تكريس
حضور حزبه على نحو مستقلّ عن ميلانشون الذي كان ترشّحه في العام 2012 و2017 باسم
تحالف ضمّ الحزب الشيوعي إياه، فكاد مع الوقت يبتلعه.
من جهتها، فشلت عمدة باريس ومرشّحة الحزب
الاشتراكي في إبقاء حزبها "حيّاً" في هذه الانتخابات، فحصل على أسوأ
نتيجة له في تاريخه إذ لم يبلغ عتبة الـ2 في المئة (نال أغلبها في المدن). أمّا
المرشّحان التروتسكيّان فيليب بوتو وناتالي آرتو اللذان استمرّا في الانتخابات
(بعد فشل مرشّح ثالث في الاستمرار) فقد نال كلّ منهما أقلّ من 1 في المئة، وجاءت
أصواتهما من "بيئتهما الأيديولوجية" ومن أفراد رافضين لباقي المرشّحين، بلا
استثناء.
روسيا وكراهية ماكرون وانتخابات "التصويت المفيد"
الملاحظة الثانية حول انتخابات الدور الأول تبيّن أن ثلاثة عوامل لعبت دوراً رئيسياً في تحديد خيارات الناخبين. العامل الأول هو عمق الكراهية لإيمانويل ماكرون التي أبعدت عنه 72 في المئة من المشاركين في التصويت، والتي بانت في كمّ الحملات والانتقادات التي استهدفته من قبل المرشّحين والمرشّحات بحيث تبارى الجميع على إظهار معارضتهم لسياساته ولشخصه ولما يمثّل ممّا عدّوه غروراً أو دفاعاً عن مصالح أثرياء أو تجسيداً لمعاني العولمة والأورَبة وسطوة الاقتصاد المالي وأسواقه على ما عداه.
العامل الثاني، هو عامل "التصويت
المفيد"، أي التضحية ببعض المبادئ والمواقف السياسية لصالح اختيار المرشّح
الأقرب سياسياً والأكثر قدرة على الوصول الى الدورة الثانية. وأدى الأمر كما ذكرنا
الى تصويت يساريّون كثر، من البيئيين والاشتراكيين والشيوعيين، وحتى في بعض
الأوساط التروتسكية، لميلانشون. الأمر نفسه سرى على أوساط اليمين المتطرّف واليمين
القومي، واستفادت منه لوبان، إذ استعادت جزءاً من الأصوات التي بدا في بداية
الحملة الانتخابية أنها أقرب الى زمّور، وأخذت أصواتاً أخرى من اليمين القومي وحتى
من أصوات اليمين التقليدي، ممّن اختاروها بسبب تأكيد استطلاعات الرأي أنها الوحيدة
من معسكرها التي يمكن أن تبلغ الدور الثاني. وماكرون بدوره استفاد من التصويت إياه
إذ اعتبر يساريون ويمينيون أقرب الى الوسط أن حلوله في المرتبة الأولى في الدورة
الأولى يعطيه أفضلية على لوبان في انتخابات الدورة الثانية، والأهم يحول دون بروز
مرشّحة اليمين المتطرّف كصاحبة القاعدة الشعبية الأوسع في البلاد.
والعامل الثالث المؤثّر في الخيارات هو تحوّل
الموقف من روسيا ومن نظام فلاديمير بوتين وحربه في أوكرانيا الى عنصر فرز في عدد
من الأوساط والبيئات السياسية. فزمّور مثلاً فشل في التبرّؤ من تأييده لبوتين في
وقت نجحت لوبان في ذلك إذ أدانت على نحو أوضح العدوان الروسي على أوكرانيا، ولَو
أن مواقفها الأخيرة التالية للدور الأول والداعية الى التصالح مع موسكو والخروج من
التحالف العسكري للأطلسي ستجعل هجوم ماكرون عليها في المناظرة المنتظرة بينهما ينطلق
في أحد جوانبه من هذه الزاوية.
وليس مستبعداً أن يكون فشل ميلانشون في حصد
المزيد من "التصويت اليساري المفيد" على صلة بمواقفه الداعمة لبوتين في
السنوات الأخيرة، رغم تبديلها بعد بدء الغزو لأوكرانيا. فكثر ممّن تمسّكوا
بالتصويت لجادو أو لهيدالغو أو حتى لبوتو اعتبروا مواقف ميلانشون من السياسات
الدولية سبباً كافياً لرفض التصويت له في الدورة الأولى. وهذا إن كان قد حرمه من 1
في المئة من الأصوات، يكون بالفعل أحد الأسباب التي منعته من التأهّل الى الدورة
الثانية.
الدور الثاني والتطبيع مع اليمين المتطرّف
تتحضّر فرنسا إذن لانتخابات الدورة الثانية بين ماكرون ولوبان. ويستعدّ كل من المرشّحَين للمناظرة المتلفزة بينهما، وتتوالى الدعوات من المعسكرات السياسية الرئيسية الثلاثة للتصويت لواحدهما. وإذا كان التطبيع مع حضور اليمين المتطرّف في المشهد السياسي وفي الانتخابات الرئاسية تكرّس في العقدين الأخيرين وصار بديهياً منذ سنوات، فإن الخوف من وصوله الى السلطة سيحرّك فئات من الفرنسيين لم تصوّت سابقاً (26 في المئة لم يقترعوا في الدورة الأولى) أو ستضطر للتصويت لماكرون من منطلق أنه "أهوَن الشرّين" وأن الأولوية الآن هي لقطع الطريق أمام لوبان. والأخيرة التي استفادت من تطرّف زمّور الأقصى لتظهر أكثر اعتدالاً ومسؤولية، تحاول مغازلة بعض قواعد ميلانشون الشعبية الشابة التي اكتشفت السياسة في عهد ماكرون وتموضعت ضدّه في السنوات الخمس الأخيرة.
لكن أسباباً عديدة تدعو الى القول بأرجحية ماكرون في الدورة الثانية. منها الخوف الذي أشرنا إليه، ومنها تقدّمه في الدورة الأولى بفارق أكثر من أربع نقاط، ومنها دعوات مرشّحي اليسار (جادو وروسّيل وهيدالغو) للتصويت له اضطرارياً أو أقلّه عدم التصويت للوبان (ميلانشون وبوتو وآرتو)، ومنها دعوة اليمين الجمهوري والوسط (بيكريس، ولكن أيضاً رؤساء جمهورية وحكومة سابقين مثل ساركوزي ورافاران وفيليب) للتصويت له.
في كل الأحوال، فرنسا مقبلة على دورة انتخابية ثانية قاسية، ومقبلة على أزمات حُكم، ذلك أن الرئيس المنتخب أيّاً كان سيواجه مشهداً سياسياً شديد الانقسام، لا أكثريّات ممكنة فيه ولا تحالفات من دون مقايضات تصعّب من مهمّات حُكمه. وإذا كان انهيار الاشتراكيين يساراً والجمهوريّين يميناً ميّز الدورة الأولى بموازاة تقدّم ميلانشون ولوبان، فإن الانتخابات التشريعية في حزيران/يونيو المقبل قد تشهد نتائج مغايرة لأن التصويت المفيد فيها لا فعلَ حاسماً له ولا حاجة إليه أصلاً في دوائر عديدة. كما أن تاريخ الأحزاب وحضور منتخَبيها المحلّيين يلعب دوراً مختلفاً تماماً عن الأدوار الانتخابية خلال الرئاسيات. وهذا يعني أن موازين قوى برلمانية جديدة يساراً ويميناً ووسطاً قد تبرز وتؤسّس لمرحلة سياسية بالغة التعقيد.
مقال منشور في ملحق القدس العربي