أقفل العام 2019 لبنانياً على عاصفة مناخية لخّصت
نتائجها والصوَر المأخوذة لآثارها أحوال البلاد في ظلّ تردّي الإدارة السياسية
والاقتصادية والخدماتية لِمرافقها في السنوات الطويلة الماضية.
فالعاصفة، إذ تسبّبت بكوارث في أكثر من منطقة، أظهرت
عمق الفساد الناخر الدولة وفجور التمييز اللاحق بمناطق بحالها وبمخيّمات لاجئين.
وأظهرت أيضاً مدى سفاهة "المسؤولين" المستمرّين بتبادل الاتهامات وكيل
المكائد واستنهاض الهمَم الطائفية واستخدام العنف لمواجهة الانتفاضة الشعبية
الرافضة لِحُكمهم.
من انهيارات الجدران
والطوفانات الى فجور المصارف
انهار خلال العاصفة قبل أيام جزء من "درابزين"
كورنيش البحر في عين المريسة. بدا انهياره وامّحاء الحدود التي كان يحميها بين
الفسحة العامة شبه الوحيدة في بيروت وموج بحرِها المحمّل بنفاياتٍ، اختلف وزراء
ونوّاب وسياسيون ورجال أعمال على سبُل نهب كلفة التخلّص منها فاتّفقوا على إفراغها
على الشواطئ المستباحة، وكأنه انهيار لمعنى المسؤولية العامة في دولة منتهكة على
مختلف الصعد. بدا كمشهد ختام في فيلم تراجيدي يطوي صفحة مرحلة ويعلن ابتلاع بحر
لمدينة تائهة، سبق لبلديّتها أن أنفقت مبالغ طائلة على الدرابزين إياه (وليس
مثبتاً الى الآن ما إذا كان إنفاقها مبرراً أصلاً).
تلا انهيار الدرابزين البحري انهيار جدار المدافن
الفاصل بين قبور الراحلين والمارة الأحياء على طريق الشام وسط بيروت، في منطقة
كانت خطوط تماس طيلة الحروب الأهلية الطاحنة. وتسبب الانهيار الثاني بجرف السيول
لأضرحة وشواهد ورميها في الطريق الموحشة تحت المطر. ولتكتمل دراميّة الحدث، صادف
أن القبور المجروفة بمعظمها ليهودٍ لبنانيين أو عابِرين (أبان الانتداب الفرنسي)
لا أهلَ لهم ولا زوّار ولا ورود منذ عقود.
في الوقت نفسه، غرقت بالسيول مداخل بيروت
والطرقات الدولية منها وإليها شمالاً وجنوباً ومثلها أحياء مدينية كاملة كما بلدات
على كامل الخارطة اللبنانية، وامتزجت مياه الأمطار في السيول بمياه المجاري
الآسنة. واحتُجز عشرات الألوف من الناس في بيوتهم أو سيّاراتهم لساعاتٍ مُهينة
طويلة، وذُكر أن كارثة كانت لتحلّ بمن سجنتهم المياه تحت جسر قرب المطار فيما لو
مسّتها كابلات الكهرباء (المقطوعة غالباً). وسبب كلّ ذلك لم يكن الطبيعة وحدّة
عاصفتها، بل فضائح الأشغال العامة وممارسات التعديّ على الحقّ العام ومنشآته وإهمالها
رغم التحذيرات الدائمة ورغم الأموال "المُنفقة" شكلاً على صيانتها.
ولم تنجُ من الأمرِ مخيّمات اللاجئين الفلسطينيين
والسوريين، ففاض البحر على مخيّم الرشيدية في صور، حيث تحُول الإجراءات المنتهِكة حقوق
الناس – كما في كلّ المخيّمات – دون بناء كاسر موج، واجتاحت المياه في البقاع خيم
اللاجئين السوريين ومساكنهم التي أُلزموا قبل أشهرٍ بهدم جدران كانت لِتحوّلها الى
بيوت مؤقّتة تقيهم الأمطار والوحول.
على أن الاعتداء الأعنف على المواطنين والمواطنات
في لبنان دار آخر هذا العام في المصارف وعلى مداخلها. وهو اعتداء فظيع في هتكِه
كرامات أفراد يجري التعامل معهم بوصفهم قاصرين تُحدّد لهم قيمة السحوبات من
أموالهم الخاصة أو من معاشاتهم الشهرية، ويُنهَرون إن طالبوا بالمزيد ممّا ادّخروه
أو جنوه، ويُبعدون بقوة رجال الأمن المسلّحين إن تمادوا في الإصرار على بعض
حقوقهم. ولعلّ صورة الفأس المحمولة من مودعٍ جاء ليقبض قسطاً من ماله الخاص وكأنه
ذاهب الى معارك الفرسان، قاتلاً أو مقتولاً، تبيّن كثافة الغضب والقهر الدافعَين
شيئاً فشيئاً الى احتمالات عنف مضاد، لن يصعُب على الكثيرين تبريره إن طالت
الإجراءات التعسفيّة المستخدمة ضد أكثرية المودعين، في حين تتأكّد يوماً بعد يوم
صحّة الأخبار المتداولة حول انتقال مليارات الدولارات الى الخارج خلال الأشهر
الماضية، بما لا يترك مجالاً للشك حول تواطؤ بعض المصارف مع عدد من السياسيين
والمتموّلين النافذين.
وليقفِل المشهد اللبناني
على المزيد من التهتّك والتحطّم العام، يمكن التوقّف عند مستويات ثلاثة من الردود
المباشرة لأركان السلطة الرئيسيين والثانويين على الانتفاضة الشعبية وعلى تدهور
أحوال البلد. المستوى الأول هو مستوى تفاذف المسؤوليات والاتهامات بين أركان ما
تصحّ تسميته بالأوليغارشيا الحاكمة. وهو يُظهر، الى وضاعة المعنيّين احتمالات تآكل
تحالفهم وتضعضع علاقاتهم رغم المصالح التي تجمعهم. وفي هذا مؤشّر على تراجع سلطتهم
واستنادها أكثر من أي وقت مضى الى القدرة على ممارسة العنف من جهة، وعلى صلابة حزب
الله وسلاحه كضامن لهم من جهة ثانية. المستوى الثاني، هو ذاك المرتبط بحملة إطلاق
الإشاعات واختلاق الأخبار لتشويه سمعة المستهدَفين من وجوه محترمة مستقلة أو
معارضة. والحملة هذه تُشارك فيها صحف صفراء ومدوّنات ومواقع إلكترونية وتتناقلها
حسابات حقيقية ووهمية على وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، بما يُظهر إفلاساً
وخوفاً من التغيير غير مسبوقَين الى هذا الحدّ. أما المستوى الثالث، وفيه ما
يُظهّر جوانب من معنى الطائفية في لبنان، فهو القائم على استنهاض الحميّة المذهبية
المردّدة في الشوارع هتافات باسمِ طائفة أو زعيم وإحالتها الى شعارات سياسية للثورة
المضادة، مكتفيةٍ بذاتها، ولو كان الهاتفين بها المتأهّبين للضرب والحرق والتخوين
هم أنفسهم من ضحايا السيول وطوفان المجاري أو البطالة أو فجور المصارف، المتسبّب
بها جميعها أو الحامي لعدوانيّتها سياسيون من الطائفة المنادى بها إياها وشركاء
لهم من طوائف أخرى...
هكذا، يعبر لبنان نحو
عام جديد، في حال من التصدّع والعنف واحتمالات المزيد منه، ويبدو شبيهاً بدرابزين
بحره الساقط أو بجدار المقبرة المتداعي. لكن أملاً ما يتسلّل مرافقاً عبوره الخطير
هذا. أملٌ تحميه مظاهرة أو تجمّع هنا ومبادرة أو اعتصام هناك، وتصونه إرادات قرّرت
منذ السابع عشر من تشرين الأول/أكتوبر الماضي استعادة بلدها وتحريره ممّن تعاقبوا
على سوء إدارته ونهبه وتشويه عمرانه وطبيعته. والأرجح أن التمسّك بهذا الأمل
والدفاع عنه هو أهمّ ما يمكن القيام به في العام الجديد.
زياد ماجد