لا أذكرُ كيف تعرّفتُ الى عسّاف العسّاف فايسبوكياً.
الأرجح أننا التَقينا أواسط العام 2011 أو أواخره لكثرةِ الصداقات المشتركة، الواقعية
والافتراضية، التي أتاحت لِـ"لايكاتنا" وتعليقاتنا أن تتقاطع تحت هذا
البوست أو ذاك. لكنّني أذكر جيداً أنّني تنبّهت يوماً الى ما يكتب صاحب هذا الإسم
الذي خلتُه لفترةٍ مستعاراً، فرحت أتابعه وأُطلّ من صفحته على نُتفٍ من أخبار
الحياة الدمشقية التي يرويها بخفّة ظلّ وسخرية مريرة.
هكذا صار أبو ريتا صديقي الفايسبوكي، وصارت صفحته كما
صفحات أصدقاء سوريّين عديدين، مبعث دهشةٍ لي – وعلى الأغلب لِلبنانيّين كثرٍ من
جيلي – إذ نقرأ فيها تعليقات أخّاذة على مجريات عنفٍ وانقطاع كهرباء وحواجز وخطف
وقنص وإصابة خزّان مياه برصاص واستمرار اصطحاب أولادٍ الى المدارس وضحكٍ وتفاصيل أُخرى
تعني لنا الكثير، نحن الذين عشنا الحرب اللبنانية ولم يكن من فايسبوك أو من
تدوينات أو من تعليقات خاصة و"عاديّة" تواكبها، أو تسمح لنا بالعبث
بمآسيها أو التداوي من بعض آثارها بالنَيل اليومي منها.
ثم اختفى عسّاف مِن شاشتي. فقدتُ الرجل لفترةٍ، الى أن
فهِمتُ من بوستاته اللاحقة أنه غادر دمشق وحطّ في موريتانيا. تلقّى عرضَ عملٍ
كطبيب أسنانٍ هناك، فصار يكتب من نواكشوط ويروي بعض مُصادفاته في سيّارات الأجرة
والعيادة وطرقات المدينة المغاربية.
على أن ترحال عسّاف الموريتاني لم يطُل كثيراً. فإذا به
ينتقل الى بيروت حيث ستلاقيه نبال وطفلتاه، فيقترب من جديد من سوريا، ومن احتمال تحويل
صداقتنا الافتراضية الى واقع.
المركز الثقافي في الموحسن
من بيروت، حوّل عسّاف "المركز الثقافي" في
الموحسن (بلدته المجاورة لمدينة دير الزور في الشرق السوري) الى ما يشبه مراكز الـ"ثينك
تانك" الأميركية. صارت بوستاته تؤلّف قصصاً هذه المرّة، تخترع سيناريوهات
لندوات ومحاضرات يستضيفها مركز البلدة، فتضمّ كبار مفكّري العالم الاقتصاديين
والألسنيّين وكوكبة علماء الاجتماع والنفس الوافدين من أرجاء المعمورة للتحاور مع
المدعوّين الموحسنيّين، برعاية أمين فرع حزب البعث في البلدة ومندوبي المنظّمات
الطليعية و"الجبهة الوطنية التقدمية". والأهمّ، أن عسّافاً بوصفه وجيهاً
من وجهاء الموحسن والندّ الفعليّ للضيوف – من آدام سميث الى تشومسكي – كان يأخذهم
في جولات خاصة بعد انتهاء تلك الندوات، فيكملون النقاش الهادئ والرصين ويجوبون بعض
طرقات البلدة وأراضيها الزراعية المجاورة لنهر الفرات، ويُسولفون ويبوح كلّ منهم
لعسّاف (ويردّ هو بالمثل طبعاً) ببعض هواجسهم الفكرية والسياسية، وحتى الشخصية.
بهذا، صارت بوستات أبي ريتا الموحسنية - البيروتية أشبه
بأفلام قصيرة، نتخيّل فيها قاعة المحاضرات وصوَر "الرئيس الخالد" وقيادات
الصفّ الأول البعثّيين، ثم شكل الوجيه-الندّ (عسّاف نفسه) وهو يتصرّف بثقة الصديق
الحميم للضيوف المحاضِرين، المتباهي بحظوته لديهم وبسلاسة متابعة النقاشات معهم
بعد انصراف "المواطنين" و"الرفاق الطليعيّين" وأمين عام الفرع
والمسؤول الثقافي في الحزب والجبهة الوطنية...
أبو يورغن
في نوفمبر من العام 2014، فاجأنا أبو ريتا بحملة غامضة للحصول
على ما أسماها "الفيزا اللزيزة" أو الـDelicious German Visa. واعتمد
لحملته "هاشتاغاً"، وجعل لها على مدى شهورٍ سياقاً قصصياً محوره السفير
الألماني: أبو يورغن.
وأبو يورغن هذا، بدا مزيجاً من موظّفي القطاع العام
السوريّين وممثّلي مسلسلات الثمانينات المصرية والأمناء العامين للفروع الحزبية
الريفية والسماسرة الصغار الباحثين دوماً عن بعض المشاريع الربحية على هامش
"معاشاتهم" الرسمية. وبدا أيضاً في تنافسه مع السفير الفرنسي ولعبه
"ورق الشدة" مع سفراء كوريا الشمالية وكازاخستان والكونغو شيخ عشيرة تقليدي
يخشى من شماتة باقي المشايخ به إن خسر و"يمرّك" على جيرانه بما يملك وما
كسب إن ربح. أما مجلسه الخاص في السفارة، فأشبه بمجالس غرف الحراسة في المراكز
الأمنية السورية حيث فرشة الإسفنج وموقد الكستناء وعلب الحليب الكبيرة الفارغة أو
البراميل الصغيرة المقلوبة لاستخدامها كراسيَ. ولا يذكّر بمقامه الديبلوماسي سوى
الويسكي المجاور على الطاولة لـ"قرعة المتّي" و"باكيت السجائر"
وبعض الملفّات التي تتعرّض للتشويه إذ تُدوّن على صفحاتها نتائج لعب الورق وأدواره
التي لا تنتهي.
وليكتمل بناء شخصية أبي يورغن، ثمة ماضٍ للرجل استعاده
عسّاف، يمتدّ من مغامراته العاطفية الى تاريخ أجداده ومرورهم
"الأركيولوجي" بدير الزور، فالتحاقه بالخارجية الألمانية وإرساله سفيراً
الى تونس، ثم نقله من هناك ومنعه من الاستمرار بممارسة هوايته الأولى: كشّ الحمام.
وعُطِفت على كلّ هذا خاصيّة أبي يورغن القائمة في التناقض الدائم بين مركزه كصاحب
سلطة على حرّاس ومرافقين وموظّفين، وسلوكه أو تدبيره أموره اليومية واضطراره للتنقّل
بالباص من بيروت الى الدورة ثم أخذ سرفيس من هناك نحو مقر السفارة، وتحويل مبالغ
مالية الى ألمانيا بواسطة "ويسترن يونيون"، واعتماد الـ"ميسد
كول" في بعض اتّصالاته لعدم "تشريجه" هاتفه بعد انتهاء وحدات
اشتراكه.
هكذا، تكشّفت في حلقات أبي ريتا عن أبي يورغن ملامح شخصٍ
لا يحمل من "الديبلوماسية" سوى المركز وما يقتضيه من مناداته في العلن
بـ"سعادة السفير". وهكذا تجرّدت الديبلوماسية من "برستيجها"
المفترض وصار ممثّلها شخصيةً تتكثّف فيها كل عناصر "الكيتش" أو سقط
المُتاع. ويمكن مع بعضِ مبالغةٍ اعتبار حلقات أبي يورغن العسّافية أنتروبولوجيا
معكوسة، أو استشراقاً مقلوباً، ضحيّته "السفير الغربي" الذي يحشد هوَ
هذه المرّة الصفات والخصائص التي يدوّنها عادةً المستشرقون حين يصفون "شخصية
عامة متوسّطة الحال" في الشرق الذي يزورون ويدرسون.
غير أن قصص أبي يورغن وعالمه وسفارته يجب ألّا تُنسينا
أن شرط وجودها يبقى أبو ريتا و"الفيزا اللزيزة" الموعودة. فلولا حضوره
كَراوٍ وشاهد وشريك في الحكايات، ولولا تقديمه طلب التأشيرة ولقائه "سعادة
السفير"، ولولا تحوّله مستشاراً فوق العادة له يبعث إليه بالمرافقين ويهاتفه
أواخر الليل ويُفاتحه بأموره المهنية ومشاريعه وأحواله مع أم يورغن وغيظه من
السفير الفرنسي، ولولا جلسات صبّ العرق وشرب الشاي، لما وُجِد أبو يورغن أصلاً ولا
عرف أحدٌ بعشقه كشَّ الحمام وبرغبته بفتح "كشك" مرطّبات وحلويات أو بِعزمه
على اقتناء سيّارة وتحويلها الى "تاكسي" أو تشييد غرفةٍ على سطح السفارة
لتأجيرها (ودفع رشوة وتسوية مخالفة للبلدية)، بما يدرّ عليه وعلى أم يورغن بعض
النقود الإضافية...
أبو ريتا هو بالتالي شرط أبي يورغن الشارط. والموحسن
ودير الزور هما مبرّر هيبة هذا الجرماني وجاذبية سفارته، ومن دونهما لا سطوة له
ولا رغبة بمصادقته ومتابعة أخباره لا في لبنان ولا في أي مكان آخر في المشرق
العربي.
لِصديقي عسّاف الشكر إذاً للتسبّب بأبي يورغن (وقبله
بالمركز الثقافي في الموحسن). وله الشكر كذلك لمساهمته في جعل الفايسبوك مساحة
كتابةٍ جديدة تشبه أدب "الواقعية السحرية" مصوَّراً بكاميرا هاتفٍ
محمول.
وإذا كانت "الفيزا الألمانية بالفعل فكرة والأفكار
لا تموت" على ما يُكرّر كاتبُنا، فإن في قصص أبي يورغن وصاحبه أبي ريتا ما قد
يجعل ريتا وناية مُستقبلاً تُعيدان، بالألمانية ربّما، صياغة حكاية صداقة أبيهما بسفيرٍ
متقاعد وإجازاتهما العائلية في تونس ولبنان وسوريا.
أما أنا، فكما التقيت بعسّاف العسّاف بعد أعوامٍ من صداقتنا
الفاسيبوكية، سألتقي بأبي يورغن، لا شكّ عندي، وسأدعوه لتقديم محاضرة في الجامعة
في باريس، بحضور السفير الفرنسي السابق في بيروت، عن تجربته الديبلوماسية وعن
علاقاته اللبنانية والسورية وعن صداقته الخاصة بأبي ريتا.
زياد ماجد
تقديم لكتاب عساف العساف، أبو يورغن
الصادر في بيروت عن دار عشرة حدعش