شكّلت ثنائية الداخل والخارج في التحليلات
العربية الساعية الى شرح أزمات وصراعات وإخفاقات وهزائم منطلق فرز بين معظم التيارات
السياسية والأفراد المشتغلين في الكتابة منذ أكثر من نصف قرن.
وانقسم أغلب المعنيين فيها بين دعاة تحميل الخارج بتدخّلاته و"مؤامراته" مسؤولية الانتكاسات والفشل من دون بحث جدّي في أعطاب الداخل وسطوة الاستبداد القابض عليه وهشاشة الكثير من بناه المجتمعية والثقافية، وبين دعاة تحميل الداخل جلّ المسؤولية وجعل مسائل الخارج نسبية أو أقلّ تسبّباً بالمعضلات والكوارث القائمة والمتفاقمة منذ عقود.
قلّة قليلة كانت وما زالت لا تُقيم مفاضلة أو تُعمِل في هذا الباب فصلاً صارماً (واعتباطياً) بين داخل وخارج، إذ لا يمكن في الحالة العربية (كما في حالات كثيرة)، منذ اكتشاف النفط ثم تأسيس إسرائيل من ناحية، وبسبب الموقع الجغرافي للمنطقة (بين آسيا وأفريقيا وأوروبا) من ناحية ثانية، فصل إشكاليات الاستبداد والقمع والانقلابات العسكرية والتخلّف الاقتصادي والتشدّدين الديني والقومي وتوظيفهما سياسياً عن قضايا التدخّل الخارجي والاحتلال والحروب وموازناتها وعن تداعيات ثقافة الريع النفطي وتحالفات القائمين عليها. وليس من المستغرب أن هذه القلة تحوّلت مع الوقت الى هدف هجمات طرفَي الثنائية المذكورة. فهي بالنسبة لدُعاة "مؤامرات الخارج" من مُمانعين و"مُعادين للإمبريالية" تشذّ عن تصنيفهم الناس بين "شرفاء" و"عملاء"، بما يجعلها منطلق ارتباكهم ومحطّ كراهيتهم المضاعفة. وهي بالنسبة لدُعاة مسؤولية "الداخل" عن استجلاب المصائب عصيةً على التنميط الذي يتمنّونه بدورهم، والذي غالباً ما يُسقط قضايا جوهرية من حسابه ليسهّل بناء منظومته الفكرية.