Tuesday, August 27, 2024

الخارج والداخل وحرب الإبادة

شكّلت ثنائية الداخل والخارج في التحليلات العربية الساعية الى شرح أزمات وصراعات وإخفاقات وهزائم منطلق فرز بين معظم التيارات السياسية والأفراد المشتغلين في الكتابة منذ أكثر من نصف قرن.

وانقسم أغلب المعنيين فيها بين دعاة تحميل الخارج بتدخّلاته و"مؤامراته" مسؤولية الانتكاسات والفشل من دون بحث جدّي في أعطاب الداخل وسطوة الاستبداد القابض عليه وهشاشة الكثير من بناه المجتمعية والثقافية، وبين دعاة تحميل الداخل جلّ المسؤولية وجعل مسائل الخارج نسبية أو أقلّ تسبّباً بالمعضلات والكوارث القائمة والمتفاقمة منذ عقود.

قلّة قليلة كانت وما زالت لا تُقيم مفاضلة أو تُعمِل في هذا الباب فصلاً صارماً (واعتباطياً) بين داخل وخارج، إذ لا يمكن في الحالة العربية (كما في حالات كثيرة)، منذ اكتشاف النفط ثم تأسيس إسرائيل من ناحية، وبسبب الموقع الجغرافي للمنطقة (بين آسيا وأفريقيا وأوروبا) من ناحية ثانية، فصل إشكاليات الاستبداد والقمع والانقلابات العسكرية والتخلّف الاقتصادي والتشدّدين الديني والقومي وتوظيفهما سياسياً عن قضايا التدخّل الخارجي والاحتلال والحروب وموازناتها وعن تداعيات ثقافة الريع النفطي وتحالفات القائمين عليها. وليس من المستغرب أن هذه القلة تحوّلت مع الوقت الى هدف هجمات طرفَي الثنائية المذكورة. فهي بالنسبة لدُعاة "مؤامرات الخارج" من مُمانعين و"مُعادين للإمبريالية" تشذّ عن تصنيفهم الناس بين "شرفاء" و"عملاء"، بما يجعلها منطلق ارتباكهم ومحطّ كراهيتهم المضاعفة. وهي بالنسبة لدُعاة مسؤولية "الداخل" عن استجلاب المصائب عصيةً على التنميط الذي يتمنّونه بدورهم، والذي غالباً ما يُسقط قضايا جوهرية من حسابه ليسهّل بناء منظومته الفكرية. 

Tuesday, August 13, 2024

عن بعض الكتابات العربية حول حرب غزة

كُتب الكثير عربياً عن الحرب الإسرائيلية المستمرّة منذ عشرة أشهر ضد الفلسطينيين في غزة، وسيُكتب الكثير عنها أيضاً في الأشهر المقبلة.

النص التالي يتناول ثلاث قضايا تُثار على نحوٍ متسرّع، في حين أن النقاش الرصين حولها وحول مؤدّياتها قد يكون ضرورياً لتوضيح المواقف وفرزها.

القضية الأولى هي قضية البعد الحقوقي أو التعريفات القانونية لخصائص الحرب الدائرة، مع ما لها من مترتّبات وتداعيات. ذلك أن عدّة مستجدّات طرأت منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023. فلأوّل مرة في تاريخ الصراع في فلسطين، تُحاكم إسرائيل (التي حظيت منذ تأسيسها بحصانة تامة تجاه الانتهاكات التي ترتكبها) أمام محكمة العدل الدولية بتهمة "الإبادة الجماعية". والجريمة المذكورة، وهي حالة الفظاعة القصوى في سلّم الجرائم المُعرّفة بموجب معاهدات القانون الدولي الإنساني، نادراً ما اتُّهِم أو يُتّهم طرفٌ بارتكابها (حصل الأمر "رسمياً" مرّة واحدة فقط بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، في رواندا، واعتبره البعض قائماً كذلك في البوسنة من دون أن تتبنّى الأمم المتحدّة ذلك). يُعطف على الأمر أن حجم التوثيق لما يجري، لجهة المواد البصرية وتكنولوجيا الخرائط وداتا المعلومات وجمع الأدلّة على الجرائم والمسؤولين عنها، غير مألوف في تاريخ الصراعات، وأولى نتائجه اضطرار المدّعي العام للمحكمة الجنائية الدولية الطلب الى قضاة المحكمة إصدار مذكّرات توقيف بحقّ رئيس الحكومة الإسرائيلية ووزير دفاعه بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية (وهو ما طلبه أيضاً في ما يخصّ ثلاثة من مسؤولي حركة حماس، ممّا فاقم من الغضب الإسرائيلي إذ عدّت تل أبيب أنه ساوى بينها وبين ميليشيا تصنفّها "إرهابية"). يضاف الى ذلك، حسمُ محكمة العدل الدولية مسألة لا شرعية الاحتلال والاستيطان وتأكيدها أن النظام الاسرائيلي المفروض على الأراضي المحتلة هو نظام تمييز عنصري "أبارتايد"، وهو المعدّ في القانون الدولي "جريمة ضد الإنسانية".